عدنا الى المشاهد المروّعة التي تُدمي القلب. ومثلما قلنا مراراً، وكل قول بات مكروراً وشاقاً: إن البربرية الصهيونية المعاصرة، ما زالت تضرب. وتملتىء في هذه الأثناء، القلوب بالحزن العميق، للأوراح التي تُزهق في بلادنا، ولترويع الأطفال في غزة، ولتكسّر زجاج البيوت واهتزاز الأرض وهي تقصف بذخائر خصصت للحروب بين الجيوش. نحن بصدد إرهاب دولة لا تصغي لأي نداء. ولا يُرجى من أي طرف، أن يفعل شيئاً سوى محض الإعراب عن الأسف، علماً بأن الأمر أبعد فداحة من كل أسف. ها هو العدوان الهمجي يقذف بوقائع مشوّهة، تجعل المتابعة، في الجوار العربي، بممانعيه وثورييه ومعتدليه، رتيبة وغير ذات تأثير في النفوس. فهذا من بعض تداعيات النظام الجديد الذي بشرت به أميركا. تتكفل الأحداث بتعريتها وكشف سوءاتها ومضاعفة عواقبها. إن ما يحدث في بلادنا يؤسس لحاضنة تنمو فيها كل أنواع التطرف، والقتل يقض مضاجع المعتدلين، ويذهب بالجميع الى اليأس من كل ما يسمونه استقرار المنطقة وجلب "السلام".
حيال استمرار العدوان بهذا الانفلات الإجرامي؛ يُحشر المعتدلون في خانة المتشددين، ولا يرى أيٌ من المعسكرين، فائدة من الحديث عن التسوية. كل الوقائع تدل المرة تلو الأخرى، على أن هؤلاء المحتلين لا يصلحون لعلاقة بين البشر والبشر ولا بين الأمم والأمم. واضح الآن، أن عدد الضحايا منّا في ارتفاع. الفلسطيني عندهم، هو المخلوق "اللامرئي" حسب وصف قديم أطلقته غولدا مئير. يخادعنا هؤلاء الذين اختاروا شكلاً حلزونياً أو دائرياً لحركة وجودهم ووظيفتهم في هذه المنطقة التي تطفلوا عليها وأسسوا دولتهم. يذهبون في الحركة الدائرية ويعودون الى نقطة البدء. دائرة يمكن أن تكون نقطتها المركزية دير ياسين. تذهب في خطها الدائري وتمر على بيت حانون ورفح وجنين والخليل والقدس، ثم تعود الى حيث بدأت. الى دير ياسين التي رموا فيها جثة الفتى الفلسطيني الذي أحرقوه. أما حركة وجودنا العربي، فإنها ذات مسار انكساري ومهشم، ينتقل عاجلاً من النقيض الى النقيض. دائرة حلزونهم السام، تضيق أكثر فأكثر، وينتقل الغيتو المنغلق، من حيّز المكان الى تلافيف دماغهم. معتوهون هم، منذ أن لقنهم الأحبار، أن سُلُّماً استطال الى السماء، فصعدوا على درجاته، وأخذوا سر وجودهم، وهو أن يمسكوا بآلات قتل وأن يعيشوا حياتهم ينتجون الكوابيس لأنفسهم ولأعدائهم، وأن يصبحوا أسرى آلة دموية، لا ترى الفلسطيني كلما ظهر. فهو الآدمي الذي لا يُرى كيف يعيش وكيف يموت!
نحن باقون على هذه الأرض، وببقائنا نتحداهم، ونعرف أن القلق الوجودي يلازمهم، مهما ولَغُوا في دمنا. نستذكر في هذه الساعات، يوم أن بلغ جنونهم ذورة حماقتهم بينهم وبين انفسهم، فقتلوا اسحق رابين لكي لا يتغير إيقاع حركتهم، أو حيثياتها، في الدائرة الدموية، علما بأن رابين، وهو من هو في تاريخ الحروب التي شنوها؛ لم يكن يختلف عنهم كثيراً. فهو ابن المدرسة التي علمتهم أن الفلسطيني غير مرئي ولن يُرى. أحد الروائيين منهم، وقف في ذكرى قتل رابين ليقول: "هذا وطن جعل كارثتي الشخصية بمثابة ميثاق دموي. لقد فقدنا الأمل، في أن نكون قادرين على أن نؤمن لأنفسنا ذات يوم، حياة أفضل. لقد فرطنا في المعجزة اليهودية ذاتها، وفي فرص بناء دولة ديموقراطية ناجحة، تلتزم بالقيم الكونية"!
المتطرفون الذين يعربدون ويقصفون ويقتلون، ويمضون في مشروع استيطاني يؤسس للحرب المديدة، ما زالوا على دأبهم. لن ينكسر الفلسطيني، ولن يخضع ولن يحيل أمنياته الى متحف الذكرى. بالدم الفلسطيني ترتسم الخطوط العامة للمستقبل، وسنظل على هذه الأرض، وهم مندحرون حتماً!