وهكذا وصل نتنياهو إلى اللحظة التي كان من المحتم أن يصل إليها بسبب خياراته المريضة، فهو الآن عالق بين شقي الرحى، قطعان المستوطنيين الذين تغولوا إلى ما يشبه دولة خاصة بهم لا تنطبق عليها قوانين دولة إسرائيل، وائتلاف من اليمين المتطرف الذي يرى كل واحد من قياداته أنه أحق من نتنياهو برئاسة الوزراء، وهكذا لا يجد نتنياهو الضعيف، المغلق الرؤية، عديم المبادرات من خيارات أمامه سوى أن يرضي جشع المستوطنين وجنونهم وانتهازيتهم، بالسماح لهم بالانقلاب كما يريدون، وكما رأينا في قيام حاخام على رأس أولاده ومؤيديه بإحراق الفتى الصغير الذي يبدو أصغر من سنه 15سنة بعد أن اقتادوه قسراً إلى مصيره، وهؤلاء ليسوا سوى عينة تافهة من تيار أكبر من جماعة تدفع الثمن الذي تطرف نتنياهو أمامهم بخوف تصل إلى حد الذعر فلم يواجههم بل ترك المؤيدين له من الصحافة الإسرائيلية والكنيست والأوساط السياسية يدافعون عنهم ويغلقون على صدورهم أوسمة البطولة القذرة.
ورغم كل ذلك، فإن الائتلاف الإسرائيلي يتداعى ويتفتت، والمصير المجهول هو سيد الموقف.
وبالتالي فإن الحملة التي بدأت قبل شهر تقريباً يوجد لها أسباب ظاهرة وهي اختطاف الشبان الإسرائيليين الثلاثة وقتلهم فوراً دون معنى ودون هدف!!! وهذا نفسه يشير إلى مشبوهية عالية بالنسبة للمسؤولين عن عملية الاختطاف ومن وراءهم، ولكن الأسباب الخفية وراء حملة نتنياهو كثيرة، لعل من أبرزها أن نتنياهو أصبح أسيراً بالمطلق لرهاناته، وتحالفاته، وعجزه التاريخي على أن يكون شريك سلام مع الفلسطينيين، لأنه يتوهم أن الفلسطيني الآن وعلى امتداد أكثر من ثلاث سنوات هم وحيدون تماماً، فالعرب غارقون إلى زمن مفتوح في مصائبهم وفي الضجيج الناجم عن تفككهم، والمسلمون أكثر ارتباكاً، والمجتمع الدولي يعود إلى لعبة المعايير المزدوجة، خاصة وأن أميركا وهي الرأس الأقوى في المجتمع الدولي يعاني من انقسام حاد، وحالة من عدم اليقين في خياراتها، وانظروا ما هو حالها في كل خياراتها من العراق إلى سوريا إلى ليبيا وبقية المنطقة!!!
ولكن تحت سقف هذه الحملة الدموية الصاخبة التي تواصلها إسرائيل تحت قيادة نتنياهو، نستطيع أيضاً أن نكتشف أنفسنا كفلسطينيين، ما هو الحقيقي وما هو الزائف في خطابنا السياسي وعلاقاتنا الوطنية، فقد أجمعت كل القوى في إسرائيل على تخوفها من قضيتين تم طرحهما في الحراك السياسي الفلسطيني مؤخراً، الأولى شجاعة الذهاب إلى المنظمات الدولية، أي تجاوز السقف التقليدي حيث لا شاهد إلا أميركا، وبالتالي اشراك الهيكل العالمي في قضيتنا وتداعياتها، وهذا ما لم تتعود عليه إسرائيل، لأن إسرائيل تعودت على نظام الشاهد الوحيد وهو حليفتها الجذرية الولايات المتحدة، ولو تمكن النظام الإقليمي العربي من الشفاء من أوجاعه، فسوف يكون هناك أفق جديد شامل للعمل، لأننا مدعومون بالثقل العربي وبمخاطبة العالم لتفعيل قوانينه التي صاغها في اتفاقيات ومعاهدات وإطارات دولية.
القضية الأخرى، هي المصالحة، إنهاء الانقسام، فقد اكتشف كل فلسطيني مهما كان اتجاهه العقائدي أو السياسي أن الرهان الإسرائيلي والاعتماد الإسرائيلي على الانقسام كان جذرياً وشاملاً، بعض الفصائل وبعض التيارات الفلسطينية فوجئت حتى الصدمة من هذا الاكتشاف!!! بعض التيارات داخل حماس اعتقدت أنها تلقت ضربة حتى الموت خلال المصالحة وتشكيل حكومة الوفاق، في عقلها الباطن وعقلها الظاهر رفضت التصديق، ولذلك بدأت منذ اللحظة الأولى بزرع المتغيرات في الطريق واختراع العوائق، وقد غرقنا نحن بنوع من الدهشة أيضاً أن فكرة قطاع غزة الرهينة هي نموذج عميق لدى إسرائيل ونموذج عميق لدى بعض الأطراف الفلسطينية وفي المنطقة، وكانت المصالحة هي الإعلان الصاخب أن نموذج "الرهينة" قد انتهى منذ إعلان حكومة الوفاق، ولذلك رأينا هذا الجنون الإسرائيلي الذي أنتج هذه الحملة المتدحرجة، ورأينا جنون بعض المجموعات الفلسطينية الذي أنتج عملية الاختطاف، كما أنتج هذه الكرات المفتعلة من النار التي تقذف في طريق حكومة الوفاق مثل رواتب موظفي الحكومة المقالة، ولغة الانقسام التي تعود من جديد، والتحريض على السلطة، والتصريحات الهوجاء، والقليل من قيمة الانجازات التي جاءت هذه الحملة الإسرائيلية أصلاً رداً عليها، ولكن استمرار هذه الحملة بغض النظر عن تأثيراته السلبية علينا تبقى من المتوقع بسبب أننا ما زلنا تحت الاحتلال، والاحتلال كله شر سواء كان هادئاً أو عنيفاً فهو أخطر فعل إنساني، ولكن هذه الحملة تمزق أفق الوهم والخداع للدولة الإسرائيلية، بأنها دولة عربدة، ودولة استيطان، ودولة أوهام خرافات، وقد أسقطت هذه الحملة وهم تمزق القضية من خلال تمزيق الشعب، فها هو الشعب الفلسطيني يتوحد من غزة إلى الضفة إلى القدس، من الخليل والمثلث إلى النقب، من الخارج إلى الداخل، شعب واحد وقضيته واحدة، والوطنية الفلسطينية اليوم تتجلى في ساحة الاختبار أقوى بكثير من الخطط العادية، وأقوى حتى من هيكل الفصائل الفلسطينية نفسها!!! وليس لدى شعبنا ما يوجه إليه اللوم الآن سوى الاحتلال بكل تداعياته، فهو الجريمة الأولى، وهو المجرم الأول.