اعظم خسارة قد يدفعها شعب ما خلال وما بعد أي حرب خارجة عن قرار وإرادة وطنية شاملة ليس البنية الاقتصادية والتحتية والمقدرات المادية، فهذه يمكن تعويضها وإعادة بناء أفضل منها خلال فترة زمنية إذا صممت بمنهج عقلاني ورؤية وطنية تتجسد فيها العدالة، أما انكسار النفوس، وتآكل مشاعرها وأحاسيسها، وانهيار قيم المجتمع الإنسانية، وأخذ روح ودم الإنسان سلعة للتكسب الشخصي والفئوي، وتصنيع كراسي زعامة - حتى لو كانت هلامية - لضمان التسلط على رقاب الناس ومصائرهم من عظام الشهداء، فهذا يتطلب إعادة بناء وتنمية إنسانية خلال أجيال شرط استمرار بيئة سلام داخلي ومع المحيط، عمادها رفع مقام ومكانة قيمة وقداسة روح ونفس الإنسان بميزان المساواة والعدالة، صغيرًا كان أو كبيرًا في السن، مواطنًا أو قائدًا، فكل فرد في جنة الوطن شجرة مثمرة تمنح وجوده الخلود في أحسن المعاني والصور الحضارية.

ما يحدث في دائرتنا المحلية والعربية خطير جدًا قد يمس جوهر وجودنا الإنساني إذا لم نتدارك الأمر، فالضمائر تتحجر مع مرور الوقت، ومشاعر وأحاسيس الكثير تتبخر، فيما يفترض أن حرارة الدماء الإنسانية المسفوكة تنضجها، وتتكون زبدة الوعي الإنساني السابق على أي وعي من نوع آخر، حتى المسمى الوعي الوطني، فهذا يبقى قاصرًا وعاجزًا ما لم ترفعه المبادئ الإنسانية إلى السماء لتعانق كلمة الحياة التي كانت في البدء. فهنا يمجد الموت، وتُغدَر الحياة بشعارات ومصطلحات سامية الأصل والشرعية، لكن البعض سممها عن قصد، والبعض الآخر عن جهل، بتغليفهم النكبة والكارثة بما فيها خسارة الأرواح والدماء الإنسانية بيافطات التضحية والصمود والمقاومة والجهاد وغيرها التي تكذبها وقائع الإبادة الاستعمارية الصهيونية الدموية، ولنا في هذا المقام هذه العبارة: "تهانينا لكم" مثل حي، فهذه الجملة لمسؤول في جماعة حماس، هرب من قطاع غزة، كتبها ردًا على مواطن فلسطيني نعى أبناءه الخمسة في قصف طائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي.

أما الفضيحة الكبرى الكاشفة عن عورة خواء مشاعر وأحاسيس الناس الإنسانية، فيمكن لأي باحث اكتشافها فوق وتحت ركام غزة المدمرة، حيث تحت كل سقف لم يقوَ فولاذه على مقاومة فولاذ ونار القنابل الخارقة، فانهار محطمًا منكسرًا، ركامًا على أجساد رُضَع وأمهاتهم وآبائهم، كانت كل روح ترى في جنبات الأعمدة والجدران التي تحمله وطنًا صغيرًا إن لم يكن بمثابة جنة أمان وسلام، وذكريات وآمالٍ تتجاوز الآفاق بسعتها.

ولا أدري أي قلب وعقل هذا الذي لا يجد تعبيرًا حول مشهد أب يبكي أطفاله الضحايا، أو أم تكاد يفطر القلب من مشهد احتضانها لوليدها سوى: "إنها ضريبة الحرية" والأفظع قول رئيس سياسة حماس في الخارج خالد مشعل: "إنها خسارة تكتيكية" ومقصده حوالي 60 ألف مواطن فلسطيني، ثلثهم أطفال والثلث الثاني نساء، أما أبناء وزوجات ضحايا هذه العقلية العقيمة العبثية، والأحاسيس الجلمودية، فإنهم بمئات الآلاف، إلى جانب حوالي مئة ألف جريح، كثير منهم بلا أطراف، أو فقدوا قدرة الإبصار.

أما مواطنو مدن وبلدات ومخيمات قطاع غزة، فإن كتاب التاريخ سيسجل أن منظومة الاحتلال الصهيونية العنصرية قد حققت أرقامًا قياسية غير مسبوقة ولا في أي صراع أو حرب في العالم، من حيث رقم مرات النزوح من مكان لآخر، هُيئ لهم أنه آمن، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، فاكتوت أجسادهم، وأحرقت النيران ثيابهم وأمتعتهم الرثة، أما المتكئون على أرائكهم في مساكنهم المكيفة، فلا يملكون سوى تمجيد صور مواسير حديدية تنفث دخانًا ولهبًا وغبارًا لتعمية البصائر، تقدمها لهم فضائيات ووسائل إعلام ووسائل تواصل احترفت الخداع والتضليل والتضخيم في كل ما يخص جماعاتها، إلا روح الإنسان الفلسطيني فإن قيمتها في نظر هذا المحلل وذاك الخبير لا تساوي اكثر من قيمة الشيك المدفوع إثر كل حلقة من مسلسل تخريب وهدم الشخصية الإنسانية الفلسطينية والعربية. فتطغى صور النار والغبار والدخان على صور مآسي ومعاناة الإنسان الفلسطيني، وتشظي أكباد الأمهات ودموع الآباء.

نعم نقولها وبكل صراحة وجرأة: نخشى تجريد الفلسطيني والعربي من إنسانيته، فهذا هدف تراهن على تحقيقه منظومة الاستعمار والصهيونية الدينية، التي تعرف كيف تتفنن في اصطناع الذرائع، وتتخذ من انزلاق مجتمعاتنا نحو مستنقع الدعاية والمفاهيم المدمرة لكينونة الفرد، أهم سلاح لتبرير حرب الإبادة على حاضرنا ونفي مستقبلنا للأبد، وهنا نؤكد على أنه يجب ألا يتحقق هذا الهدف أبدًا.