الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

اختار والدي أن يسكن دائما في مناطق المسيحيين، وكانت له علاقات جيدة جدا معهم. كان محبوبا ومعروفا لدى لجميع، يُنادونه: "أبو صالح"، وله سمعة طيّبة جدا، فقد اشتهر بالنخوة والرجولة وكان ينادونه دوما أبو صالح الفلسطيني. وخلال فترة سكنه في منطقة "الحدث"، كانت عدد أفراد العائلة قد وزاد، ومنهم من شبّ وأصبح على أبواب الجامعة، ومنهم الأطفال الصغار..

كان لي من الإخوة والأخوات، سبعة أشقّاء ذكور، وتسع شقيقات اثنتان توفيتا بعمر صغير جدا والثالثة توفاها الله بعمر الزهور في السابعة عشرة إثر جلطة دماغية وهي الشقيقة الوحيدة التي وُلدت في صفورية بعد أخي الكبير. وبعد أن استقرّ الحال بعائلتنا في منطقة "الحدث" لبضع سنين حتى مطلع السبعينات، بدأت انطلاقة الثورة الفلسطينية في سوريا في العام 1963 ومن ثم وصلت إلى لبنان.

في العام 1966 استشهد أخي الأكبر "صالح" الذي كان مقيمًا مع أسرته في سوريا، وكان من الثّوار، وكان دائما يتسلّل مع الشبّان المقاومين إلى الأراضي الفلسطينية المُحتلة حتى استشهد في عام 1966 وترك أسرة مُؤلَّفة من خمسة أبناء ذكور وثلاث فتيات وزوجته، وأصبح والدي هو المسؤول عن إعانتهم، حيث كان دائم السفر إلى سوريا لتفقّد أحوال أحفاده ويمدّهم بالمصاريف اللازمة ليعشوا حياة كريمة.

بعد اندلاع أحداث معركة "أيلول الأسود" في الأردن عام 1970، انضمّ أحد إخوتي إلى مجموعة الشباب الثوريين وتسلّلوا إلى الأردن عن طريق سوريا، للدفاع عن المخيمات في "عمان"، وكان عمره في ذلك لم يتعدّ الثالثة عشر. ومع الأسف، فقدنا أخباره ولم نعد نعلم عنه شيئا. ورغم أنّ والدي كانت له علاقاته ومعارفه الكثيرة مع منظمات عديدة، فإنه لم يجد أحدًا يقدّم معلوماتٍ تفيدنا حول مصير أخي.

بعد خمس سنوات من اختفاء أخي، علِمنا بأنّه كان من بين الأسرى الذين تمّ سجنهم ثم أفرِج عنهم بمناسبة احتفال الملك "حسين" بعيد ميلاده. وبعد طول غياب عاد أخي إلى حضن العائلة، وحكى لنا أقاصيص من فترة سجنه. غير أنّه في هذه الفترة، بدأت بوادر الحرب الأهلية في لبنان عام 1973، وكان من الصعب على والدي أن يبقى "غريبًا" في منطقة "الحدث"، ووجد نفسه مُضطرًا إلى النزوح مع عائلته إلى "الضاحية الجنوبية"، ومنها انتقل إلى مخيم "برج البراجنة" الذي كانت له فيه معارف كثيرة. وأيضًا، أخي "أبو غسان" كانت له علاقة طيبة مع قادة "الجبهة العربية" التي يُعتبر أحد مُؤسّسيها، وهم مَن أمّنوا لنا أرضًا في المخيم على مساحة واسعة.. وقد بنى والدي منزلاً كبيرًا وأحاطه بجنائن من الأشجار.. ثم مُنحِت لعائلتي أرضًا أخرى ليبني عليها أشقّائي المقبلين على الزواج بيوتًا لهم..

وما كدنا نستقرّ حتى انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية واستمرت لسنوات.. وقد عانينا مثل جميع الأهالي في المخيم من القصف العنيف على المخيم من المنطقة الشرقية. وقد تعرّض بيت عائلتنا إلى صاروخين تسبّبا في تدمير معظم أجزائه، ومن لطف الله أنّه لا أحد أصيب من أفراد عائلتي.