معركة المعتقلين الإداريين قاسية وتحتاج إلى حملة إسناد أوسع وأكثر توحيداً ونطاقاً وشمولية، ميدانياً وقانونياً وسياسياً ودبلوماسياً. فبعد 50 يوماً من إضرابهم المفتوح عن الطعام دخلت حياتهم دائرة الخطر الفعلي. أجسادهم تذوي لكن أرواحهم تعانق عنان السماء "يدقون جدران الخزان" بأمعائهم الخاوية، تحاصرهم حكومة المستوطنين وجهاز مخابراتها وإدارة سجونها بكل وسائل القوة والقمع يقاومونها بإرادة لا تنكسر وعزيمة لا تلين في واحدة من معارك: "حاصر حصارك لا مفر"، و"لا تمت قبل أن تكون نداً"، و"نعم لآلام الجوع......وألف لا لآلام الركوع".
 
يرقد 80 منهم في المستشفيات مكبلين بينما يقبع 70 منهم مع عشرات الأسرى غير الإداريين في زنازين العزل في أكثر من سجن ومعتقل. يصرخ الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون: "قدموهم إلى المحاكمة أو أطلقوا سراحهم" لكن لا حياة لمن تنادي في دولة احتلال مارقة عدوانية عنصرية. يصيح أطباء يهود في المستشفيات الإسرائيلية "من غير الجائز أخلاقياً تغذية المضرب عن الطعام قسراً"، لكن رئيس حكومة (إسرائيل)، نتنياهو، يدعو "الكنيست" استجابة لطلب جهاز مخابراته إلى تسريع إقرار مشروع قانون التغذية القسرية التي سبق وأودت بحياة الأسير الشهيد البطل عبد القادر أبو الفحم، (إضراب سجن عسقلان 1970)، وبحياة الأسرى الأبطال راسم حلاوة وعلي الجعفري واسحق مراغة، (إضراب سجن نفحة 1980).
 
يجاهر رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي، يورام كوهين، بعزمه على كسر إضرابهم بكل الوسائل وبأي ثمن حتى لو مات واحد أو أكثر منهم. ويتمادى ممثلو المستوطنين في حكومة نتنياهو و"الكنيست" في فاشيتهم وعنصريتهم إلى درجة أن يجاهر أحدهم، الليكوي فيغلين، بالقول علناً: "علينا ألا نقدم لهؤلاء "المخربين" أي شكل من أشكال التغذية بما فيها القسرية........ولنتركهم يموتون ما داموا يريدون الموت".
 
وتصر حكومة نتنياهو وجهاز مخابراتها وإدارة سجونها العامة على عدم الاستجابة لمطالب المعتقلين الإداريين حتى لو تطلب الأمر تحويل واحد من المستشفيات الإسرائيلية إلى مركز اعتقال.
 
بهذا يتضح أن جهاز المخابرات الإسرائيلي، ومن خلفه حكومة نتنياهو، قد قرر التنكيل بالمعتقلين الإداريين بصورة تتجاوز كل حدود المعقول، بل تتجاوز حتى المعتاد في القمع الإسرائيلي للأسرى الفلسطينيين وإضراباتهم المفتوحة أو الجزئية عن الطعام. أما لماذا؟
هاكم واقعة شديدة الدلالة والمغزى على سيطرة جهاز المخابرات على سلطة قضاء الاحتلال العسكري، بل وعلى سلطة حكوماته أيضاً.
 
في العام 2003، وعلى إثر هرب ثلاثة أسرى من معتقل عوفر العسكري حضر إلى السجن عدد من الوفود الأمنية والعسكرية والقضائية رفيعة المستوى لمعرفة الثغرات الإدارية والأمنية التي أدت إلى نجاح عملية الهرب. وكان بين الوفود التي زارت السجن وفد من "قضاة النيابة العسكرية" برئاسة المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية آنذاك، أليكيم روبنشتاين، (شغل أيضاً منصب رئيس "محكمة العدل العليا"، ومنصب رئيس وفد (إسرائيل) للتفاوض مع الفلسطينيين).
 
يومها كنت وأربعة زملاء في"لجنة تمثيل الأسرى"، نقوم بزيارة إلى أحد أقسام المعتقل. وفي الطريق لفت انتباهنا احتشاد عدد كبير من الجنود يتوسطهم مدير السجن وأليكيم روبنشتاين والوفد المرافق له. تقدم إلينا مدير السجن ودعانا إلى حديث سريع مع "الزائر الكبير". بدأ حديثه بسؤالنا واحداً تلو الآخر: "لأي تنظيم تنتمي"؟ استجاب الزملاء. وعندما جاء دوري قلت: "لا انتمي لأي تنظيم".
 
تفاجأ وعلت وجهه الدهشة وقال: "كيف.....إذاً لماذا أنت في السجن"؟! قلت: "أنا معتقل إداري"؟ قال: "حسناً.....إذاً أنت بالتأكيد تنتمي إلى أحد التنظيمات الفلسطينية". قلت: " بل متهم بذلك بناء على ملف أمني سري....لم أقر به رغم تعرضي للتحقيق مرات عدة....فيما لم يتح لي، أو لمحامي الدفاع عني، الاطلاع عليه، ما يحرمني من الدفاع عن نفسي في محكمة مفتوحة حتى وفقاً لقوانينكم العسكرية الجائرة أصلاً".
 
صمت الرجل بينما عرض علينا مدير السجن الانتقال إلى مكتبه لعرض مطالب الأسرى على الوفد. تحدث الزملاء حول قسوة شروط الاعتقال لناحية سوء التغذية وتدني العناية الصحية واكتظاظ السكن و....الخ وعندما جاء دوري في الحديث قلت مخاطباً اليكيم روبنشتاين:
*"بوصفك رأس الهرم القانوني لدولة (إسرائيل) هل تعلم أنكم تطبقون سياسة الاعتقال الإداري بصورة أسوأ حتى من نظام التمييز العنصري البائد في جنوب أفريقيا"؟
* تجهم وجهه وقال: "كيف"؟
* قلت بهدوء: "حتى في ظل ذلك النظام لم يكن متاحاً تجديد أوامر الاعتقال الإداري بصورة تلقائية كما تفعلون".
*قال بنبرة مشككة: "هل أنت متأكد مما تقول"؟
 
*قلت بثقة: "أنا لا أقول شعراً"!
 
*قال: "لكن حتى أعرق الديمقراطيات الغربية، الولايات المتحدة، لجأت إلى هذا النوع من الاعتقال بعد أحداث 11 سبتمبر 2001".
 
*قلت: "أعلم لكن هذا تم بعد حدث جلل وسيتم التخلي عنه بدليل ما صاحب تطبيقه من ضجة وجدل كبيريْن داخل الولايات وخارجها".
 
*قال: "أنت تعلم أن دولة (إسرائيل) توفر للمعتقل الإداري ثلاث درجات قانونية للدفاع عن نفسه ضد كل أمر اعتقال إداري هي: "نظرة قانونية لقاض عسكري في أمر الاعتقال"، ثم "الاستئناف على القرار أمام قاضٍ عسكري أرفع مستوى"، ثم "الاستئناف أمام قضاة أعلى سلطة قضائية إسرائيلية، "محكمة العدل العليا".
 
*قلت: " أعلم ذلك لكن في أي من هذه الدرجات لا يحق للمتهم أو محاميه الإطلاع على التهم الموجهة إليه بذريعة ثابتة: "الحفاظ على سرية مصادر المعلومات ومنع تعريضها للخطر"....ناهيك عن أن التهمة ذاتها تكال لكل معتقل إداري: "يشكل خطراً على أمن الجمهور والمنطقة"....
 
وعن أن إصدار أمر الاعتقال الإداري يقع ضمن صلاحيات صغار ضباط جهاز المخابرات إما نصاً كما حصل إبان الانتفاضة الأولى أو عمليا إبان الانتفاضة الثانية.....وعن أن عدد المعتقلين الإداريين قفز من المئات إلى الآلاف خلال سنوات هاتين الانتفاضتين رغم اللازمة التي يكررها كل قاض عسكري يصادق على أمر الاعتقال الإداري أو على تجديده، هي: "الاعتقال الاداري إجراء استثنائي ومتطرف لا يجوز اللجوء إليه إلا عندما تنعدم بدائله".....
 
وعن اللجوء إلى وضع نحو 1500 فلسطيني في الاعتقال الإداري لمدة ثلاثة أشهر بعد اجتياح الضفة، 2002، انتظاراً للتحقيق معهم على يد جهاز المخابرات بعد التحقيق مع من يراهم أشد خطورة.....وعن أن سياسة الاعتقال الإداري سياسة إسرائيلية ثابتة طالت الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وأن عدداً كبيراً منهم أمضى-دفعة واحدة- سنوات في الاعتقال الإداري وصلت سبع سنوات في حالة المناضل علي الجمال من جنين، (1975-1982)، بينما عدد كبير منهم أمضى-على دفعات- عقدا أو عقدا ونصف العقد من حياته في الاعتقال الإداري....فهل لك أن تسمي لي دولة تسمي نفسها "ديمقراطية" طبقت سياسة الاعتقال الإداري على هذا النحو الذي تطبقونه في (إسرائيل)؟!
 
*تردد قليلاً وقال: وهل لك أنت أن تسمي لي دولة في العالم محاطة بهذا العدد من الدول المعادية مثلما هي الحالة في دولة (إسرائيل)؟!
 
*عفوا...... لم يعد للنقاش معنى.......فهذا دفاع سياسي عن الاعتقال الإداري يقدمه رأس الهرم القانوني في دولة (إسرائيل).....وأنا أفهم الآن أكثر من أي وقت مضى حقيقة سيطرة السلطة التنفيذية للاحتلال، وذراعها الأمنية خصوصاً، على ما يسمى سلطة القضاء العسكري أصلاً، ما يحولها إلى مجرد أداة بيدها، وإلى غطاء قانوني شكلي لها.....بل أفهم أكثر من أي وقت مضى لماذا نجد حتى جهات سياسية وقانونية وإعلامية إسرائيلية تتعاطف مع مطالب المعتقلين الإداريين الفلسطينيين، وفي أقله مع مطلبهم في وضع قيود أكثر على تطبيقات الاعتقال الإداري في (إسرائيل) التي وصفها الوزير الإسرائيلي السابق، يوسي بيلين، (عام 1997)، بـ"لطخة عار في جبين الديمقراطية الإسرائيلية".
 
قصارى القول: معركة المعتقلين الإداريين جد قاسية. فهكذا يخضع حتى من هم في موقع رأس الهرم القانوني في (إسرائيل) لحكومات الاحتلال وجهاز مخابراتها المتحكم الأول والأخير في تطبيقات سياسة الاعتقال عموماً، والاعتقال الإداري، خصوصاً.