ازداد اللغط بين المحللين السياسيين حول سيناريوهات اليوم التالي بعد العدوان على قطاع غزة، واتفق الجميع تقريبًا – وأنا كنت واحداً منهم- على أن نتنياهو لا يمتلك تصوراً واضحاً لليوم التالي، وهو الأمر الذي يعقد من تحالفه السياسي مع الصهيونية الدينية من جانب، ومع الولايات المتحدة من جانب أخر. وفي سياق الجدل بين الأفكار السياسية حول هذه القضية المهمة، أعتقد أننا جميعًا جانبنا الصواب. فعدم وجود سيناريو إسرائيلي لليوم التالي بعد العدوان هو في حد ذاته سيناريو اليوم التالي. بكلمات أخرى، إن حكومة نتنياهو تسعى لتطبيق سياسة"عدم وجود سيناريو محدد لليوم التالي بعد العدوان"، وهذا بالضبط يفسر حالة الغموض التي تكتنف ليس فقط مستقبل قطاع غزة وإنما أيضاً مستقبل الضفة الغربية. ففي الوقت الذي تمارس فيه إسرائيل حرب إبادة على قطاع غزة، هنالك حرب صامتة على الضفة الغربية تستهدف جوهر المشروع الوطني الفلسطيني والمتمثل بإقامة الدولة. وفي السياق، فإن هذه الحرب الصامتة على السلطة الوطنية في الضفة الغربية يستهدف أيضًا تعزيز قدرة إسرائيل على تنفيذ سياسة "عدم وجود سيناريو لليوم التالي" في قطاع غزة.
وحتى أكون أكثر وضوحاً، فإن اسرائيل وكما أعلن نتنياهو مسبقاً لا يريد لأي من فتح وحماس إعادة سيطرتها على قطاع غزة، والسبب في ذلك مختلف بين الطرفين، فإعادة حكم فتح سيؤدي إلى تعزيز النهوض الفلسطيني نحو تحقيق الدولة، أما في حالة حماس فالاسرائيليون لم يعودوا يثقوا بإلتزام حماس بأي هدنة خاصة مع إرتباطها العضوي مع إيران.


في المحصلة، فإن إسرائيل تسعى لفرض سيناريو "الفوضي المنضبطة" في قطاع غزة، وتتسم سمات هذه الحالة بالاتي:


1- تمزيق القطاع عسكريا وهو ما يتمثل بوجود قوات عسكرية اسرائيل في محور فيلالفيا وشارع صلاح الدين ومحور نتسريم وهو الامر الذي يمنع قيام اي كيان فلسطيني في القطاع لاسيما اذا ما تم الاستمرار في إحتلال معبر رفح وقطع علاقات القطاع مع العالم الخارجي.


2- انشاء منطقة عازلة بمساحة تقدر ب 62 على طول الحدود بين غزة وفلسطين المحتلة، وقد تستخدم هذه المنطقة لاحقاُ لاغراض الاستيطان الزراعي فهذه المناطق في جملتها أراضي خصبة، ويمكن لاسرائيل إستخدامها عسكريا واستيطانيا.


3- قطع التواصل بين الشمال والجنوب بشكل كلي، وربما في مرحلة لاحقة سيتم قطاع التواصل بين مدن القطاع منعاً لقيام أي كيان فلسطيني في قطاع غزة.


4- إستمرار العمليات العسكرية "الجراحية" في قطاع غزة لسنوات طويلة قد تصل الى 10 سنوات وذلك بهدف القضاء على المقاومة المسلحة من جانب، ومنع عودة النارحين من جهة ثانية، وعرقلة جهود إعادة اعمار قطاع غزة من جهة ثالثة.


5- اتباع استراتيجة " تحويل قطاع غزة الى جحيم" وهو الأمر الذي دأبت قوات الاحتلال في تنفيذه منذ العدوان في السابع من اكتوبر وستستمر في المضي قدما فيه وستتبع عدة أدوات منها سياسة التجويع ومنع الاعمار واستمرار العمليات العسكرية وهو الامر الذي سيفضي في نهاية المطاف الى تهجير الشعب الفلسطيني من القطاع سواء قصريا او طوعياً.


6- اضعاف وتهميش المكونات الفلسطينية السياسية والعشائرية بحيث لا يستطيع أي طرف من هذه المكونات اعادة السيطرة والحكم في قطاع غزة بشكل كلي.


7- السعي لاعطاء شرعية لاستدامة احتلال قطاع غزة لفترة طويلة من خلال تواجد قوات عربية او دولية تماما مثل الحالة التي يوجد عليها الميناء الامريكي في مدينة غزة والذي يمكن ان يتحول لقاعدة عسكرية امريكية في القطاع.


وفي إطارهذه الصورة، فإن اسرائيل ستخلق من غزة إقليماً فاشلاً تماماً كما فعل الاستعمار بسوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول المجاورة. ومثل هذا الاقليم المتصور سيكون ممزقاً بين كنتونات متعددة، تستلم السلطة في كل كانتون سلطات محلية او سياسية (ليست عسكرية). وبدون وجود سلطة مركزية على غزة تستطيع القوات الاسرائيلية الغازية أن تحافظ على ميزان القوى لصالحها. وفي ظل الحرب الصامته على مؤسسات السلطة الوطنية في الضفة الغربية والتي تتمثل بالاقتحامات والاعتقالات وقرصنة أموال المقاصة لن يكون بمقدار السلطة الوطنية ان تكون لاعباً رئيسياً في اليوم التالي بعد العدوان في القطاع، ولربما لن تكون هي اللاعب الاساسي في الضفة الغربية أيضاً حسب المخطط الفاشي الصهيوني. بالمحصلة، ستكون ا"لفوضى المنضبطة" هي السمة الغالبة في المخطط الصهيوني ليس فقط في غزة وانما ايضا في الضفة الغربية والتي تخطط اسرائيل فيها لنقل الصراع فيها بين الجيش الاسرائيلي والمواطنين الفلسطينين الى مرحلة الصراع بين المستوطنين اليهود والعرب الفلسطينيين لكي تصبح الضفة الغربية مكاناً دائماً للفوضى والعنف بدون وجود مسؤولية مباشرة للاحتلال تماما كما هو الحال عليه في الحروب الاهلية داخل الدولة الواحدة.
في النتيجة، ربما تكون "الفوضى المنضبطة" هي الطريقة الصهيونية الحديثة لإنهاء المشروع الوطني الفلسطيني في الوقت الحاضر، ويبقى التساؤل مطروحا لنا جميعاً. ما هو المخطط الفلسطيني لمواجهة هذه الفوضى المنظمة؟ وما هو المخطط العربي لمساندة السلطة الوطنية في مقاومة هذا المشروع وبشكل خاص الموقف الأردني والمصري؟ وما هي تداعيات هذا المشروع علي الامن القومي العربي؟ وإلى أي درجة يمكن لنا أن نعزز من جبهتنا الوطنية الداخلية لمواجهة هذه المشروع؟ وكيف يمكن لنا تطوير أدوات جديدة في المقاومة من أجل مقاومة هذا المشروع الصهيوني واستنهاض مشروعنا الوطني نحو إقامة الدول المستقلة؟ في الواقع كلها أسئلة كبيرة وتحتاج منا الوقوف أمامها على الصعيد الوطني والاقليمي والدولي من أجل إيجاد مقاوبات جديدة وصالحة لمواجهة هذا المشروع الصهيوني الجديد.