الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

لطالما سألتُ أمّي، رغم أنّني حفظت إجاباتها، ولكنني كنت لا أملّ من تكرير الأسئلة نفسها: كيف كان الفلسطينيون يعيشون في بلادهم قبل أن يحُلّ الوباء الصهيوني؟ كيف طعم الحياة ومذاقها وألوانها في فلسطين العربية؟ كيف كان الناس يعيشون، يحرثون ويزرعون أراضيهم الفلاحية، ويعتنون بأشجار الزيتون والتفّاح والليمون، ويعتزّون بالياسمين والزّعتر؟ كيف كان الناس يحلمون ويحبّون ويتعاونون ويعشقون الحياة؟ كيف كانوا يستقبلون أبناءهم العائدين من رحلات طلب العلم في الخارج؟

تقول أمي: "لم نشعر يوما بخطر الوباء الصهيوني الذي عاث في بلادنا فسادا وتخريبا، وقتّلنا وذبّح أهالينا، ورمى بنا في مهبّ التشرّد بعيدًا عن منبتنا وأرضنا.. ما أذكره يا بنيّتي أننا كنّا نحبّ بعضنا البعض، ونتعايش بسلام وأمان بدون تعصّب مع الأغراب بيننا وعابري السبيل والعاملين القادمين من أصقاع مختلفة يطلبون أرزاقه في بلادنا فلسطين. لم نكن نحمل كرهًا أو ضغينة لأحدٍ غريب بيننا، ولم تراودنا الهواجس أنّ بعض الغرباء سيتحوّلون إلى وحوش تفترسنا وتحوّلنا إلى أغراب في وطننا!".

تستطرد أمي حديثها عن فلسطين قائلة: "فجأة ودون سابق إنذار، كنّا آمنين داخل بيوتنا، فسمعنا دويّ القصف، وشاهدنا العصابات الصهيونية وهي تقتل أهلنا، وتجبر ما تبقّى من أهل القرى على الخروج تحت تهديد السلاح، دون أن يتمكّنوا من أخذ أيّ شيء معهم. كان أمل كل الذين هُجّروا من بيوتهم وقراهم مُعلّقًا بالوعود التي سمعوها من جيوش عربية، بأنّهم سيعودون إلى فلسطين في غضون أسبوع واحد..". 

ولكن الأسابيع توالت، وتوالت الأعوام، وصار كل عام يمثّل نكبةً.. حتى أصبحتُ أنا الابنة الفلسطينيّة المولودة في مخيمات اللاجئين في "لبنان"، ومثلي جميع الفلسطينيين المولودين في مخيّمات اللجوء، نقيم مهرجانات وطنية، تحت راية "حركة فتح" و"منظمة التحرير الفلسطينية"، نستعيد فيها ذكرى نكبة 1948، على أمل العودة إلى بلادنا التي سمعنا عنها ولكننا لم نرها "فلسطين".. صار وطننا قضيّةً تسكننا ونحياها بجوارحنا ومشاعرنا وكل خليّة حيّة فينا، حتى يوم الاجتياح الصهيوني لبيروت في عام 1982.

ما أصعب أن يعيش الفلسطيني في وطنه من خلال وسيط، من خلال ذاكرة الآباء والأجداد الذين هُجّروا منه ذات غفلة عربية.. ربّما لم تكن غفلة، بل كان مشروعًا شيطانيًّا بدأت تتكشّف أسراره لتؤكّد بأنّ بعض العرب أسهموا في "صناعة" المأساة الفلسطينية.. وهم ماضون، باسم العروبة والدين، في تعميق المأساة وربّما "اغتيال" فلسطين من الذاكرة البشرية، كما يريد ذلك الوباء الصهيوني وعبدة الشيطان الغربيين!