رأسي يكاد يلامس السماء, أنا طفل النكبة الذي صحوت من نومي مذعورا في فجر الخامس عشر من ايار عام 1948 على صوت انفجارات قذائف الهاون «المورتر» وشهيق النيران التي اشتعلت في بناء بيتنا الواسع في قرية السوافير الشمالي, فهربنا من فاجعة الموت الى اطراف القرية اعتقادا انها ليست سوى سويعات ثم نعود !!!ولكن المنفى فتح اشداقه المتوحشة وتطاولت دروبه التائهة من الزمن فاخذنا الى حيث لا نهاية, لنكتشف بعد ان نستفيق ان نكبتنا الفلسطينية أكبر الف الف مرة من النكبة لانها حدثت بفعل فاعلين, هم اقوى الاقوياء في زماننا, صنعوا خطيئة اكبر من فظاعات كل الخطايا, اكبر من كسوف الشمس وخسوف القمر وانجراف القارات وازمنة الطوفان, لانها كانت مقصودة ومتعمدة ومخطط لها بكل اتقان ومحشود لها كل عناصر الحقد والقوة, ونحن لسنا سوى شعب صغير, وادع, يعيش في وطنه الذي كان اول ارض اشرق عليها تاريخ الانسان, مر علينا كل الانبياء وكنا هنا ففي هذه الارض قبلهم, ولكن الذين ارتكبوا الخطيئة الكبرى, والذين صنعوا نكبتنا والتي هي اوجع الف الف مرة من النكبة, انكرونا ونحن احياء, خنقوا صوتنا ونحن نصرخ, شطبوا اسمنا عن الخرائط السياسية, سكنوا بيوت مدننا التي كانت موجودة قبل ميلاد التاريخ, واكلوا من ثمار اشجارنا وحنطة حقولنا ولكنهم ادعوا اننا لم نكن هنا قط, وجدنا هنا بالصدفة ولم يعد المكان يحتملنا منذ الان, وعلينا ان نعترف بانه لا شيء لنا, لا وطن ولا ذاكرة, وان المنافي القريبة والبعيدة ستكون كفيلة بنا, وستسرق ملامحنا وينتهي كل شيء.
رأسي يكاد يطاول السماء أنا طفل النكبة, بعد ست وستين سنة على اكتمال الخطيئة الخارقة, لانني انتمي الى شعب لم يبرع شعب مثله في عبقرية القيامة, انا الفلسطيني الذي استفقت من الصدمة لأجدد اسمي مسروقا, وصوتي مخنوقا, وتركة ابي موزعة على المتقاسمين, ودمي معجونة به فطيرة الفصح الكبير, وقد اعدوا لي غيابا لا يشبهه غياب اخر.
ثم ها انا ذا احضر في الاحتفال, بل انني سيد الحضور ومركز المعادلة, ماذا تفعلون بي تذروني مع هبوب الريح اكون قوة الانتشار وبذور النار، وتضغطونني بقسوتكم وغبائكم العنيد فاكون سر الانفجار، هل ترون؟ لم تنته الحكاية محصنا بعبقرية الالم, ومصقولا كسيف الله بعبقرية التجربة, ومضاء بقوة الحق وعدالة المسعى, ها انا ذا امامكم قائما من موتي وحاضرا من غيابي, ها انا ذا اطرح عليكم الاسئلة من جديد لتكون اسئلتي اول الكلام واخر الكلام.
بعد ست وستين سنة عل النكبة التي هي افظع من كل النكبات نتهرب دولة اسرائيل الى العربدة والجنون, خوفا من الاسئلة الفلسطينية البسيطة, تكتشف ان اسمها الذي سجلته في دفتر المواليد المزور عام 1948 لم يعد مناسبا ولا كافيا ولا صادقا ولا آمنا وتكتشف ان عربدة القوة لها حدود, وان الخرافة تسقط من عرشها الوهمي تحت اقدام الحقيقة الفلسطينية، واننا لم نطلب الكثير, كنا هنا دائما فلماذا لا تعترفون اننا هنا؟ لسنا نحن الذين صنعنا حكاية اضطهادكم فكيف تصالحتم مع الذين ساموكم سوء العذاب ثم ها انتم تصرخون في وجوهنا كالاشباح الشريرة بأن علينا ان ندفع الثمن؟
كنا هنا منذ الازل, ولم نمت حين اكتملت شروط الموت, ولم ننس حين اصبحت الذاكرة عبئا ثقيلا, فلماذا لا تقرون بما اتفقتم عليه, وأين تهربون من حقنا العادل الذي يلاحقكم في حالة الانتشار او حالة الانفجار؟
بعد ست وستين سنة على نكبتنا, المجد لك ايها الألم العظيم لانك علمتنا الاسماء جميعا والاسرار جميعا, علمتنا ان نحيا وان نحضر وننادي ونطالب ونصر على تصحيح الخطيئة الكبرى التي ارتكبت بحقنا, لا نريد انتقاما ولا ثأرا ولا كراهية, نريد ان نقوم بدولتنا الفلسطينية في فلسطين وان تكون القدس عاصمتنا كما أراد لها الله ان تكون حقا, بوابة الناس من الارض الى السماء.