الذكرى الثالثة والثلاثون ليوم الأرض، تتجدد فينا هذه الأيام، بأحداثها ووقائعها، بدمائها وشهدائها، بقرارها الخارق و أبطالها الشجعان، تتجدد فينا بطزاجة كأنها حدثت البارحة وليس قبل قرابة أربعة عقود، وتضيء فينا حالتها العقلية والشعورية والوطنية والكفاحية بكل ما فيها من ذاكرة قوية، ومعان عميقة، ورسالة تحمل في طياتها أصل القضية في جيناتها الأولى، في أسئلتها الأولى، هنا في الوطن، في الجليل والمثلث والنقب، في عكا وحيفا ويافا واللد والرملة، في القدس والضفة وقطاع غزة، في أقرب منفى فلسطيني، وفي أبعد شتات فلسطيني.
في عام 1976، أي بعد مرور ثمانية وعشرين عاما على النكبة الفلسطينية – التي هي واحدة من أفدح التراجيديات الانسانية – وبعد مرور تسع سنوات على الهزيمة المدوية المفجعة في حزيران عام 1967، وبعد ثلاث سنوات على حرب أكتوبر تشرين رمضان العظيمة عام 1973لاحظوا أن هذه الأحداث الثلاثة الكبرى ليست سوى جزء يسير من يوميات التراجيديا الفلسطينية – بعد هذا كله، فوجئت القيادة الإسرائيلية أن الأسئلة الرئيسية للقضية الفلسطينية ما تزال هي نفسها لم تغب أبدا، ولم تتراجع أبدا، فهؤلاء القوم الذين تشبثوا بأرضهم، وتحملوا قسوة العنصرية الصهيونية في أبشع صورها، هؤلاء القوم ليسوا الإسرائيليين العرب كما تسميهم الوثائق الرسمية الإسرائيلية، وليسوا أقليات من البدو أو الدروز أو المسيحيين أو المسلمين، إنهم كل هذه الخصائص وأكثر منها ألف ألف مرة، إنهم الشعب الفلسطيني، وسؤالهم الرئيسي هو سؤال الهوية، وصراعهم الرئيسي هو الأرض، فهم ليسوا مجرد سكان كما تعاهد على ذلك قادة إسرائيل، وأرضهم ليست مجرد جغرافيا، بل هم شعب بكل معاني الكلمة، وأرضهم هي الوطن الذي اسمه فلسطين.
ذلك الاشتباك الذي جرى في الثلاثين من آذار مارس عام 1976 في قرى سهل البطوف الثلاث، كان تجسيدا لهذا المعنى، وكان رسالة واضحة لا تحتاج إلى تأويل لأنها قطعية الدلالة، بأن الاعتقاد الصهيوني الإسرائيلي بأن كل شيءانتهى، وأن الملفات أغلقت، وأن الأسئلة صمتت، هذا الاعتقاد الإسرائيلي هو مجرد وهم بائس ليس إلا.
وأعتقد أن وحشية الجنود الإسرائيليين ورجال الأجهزة الأمنية، في اطلاق رصاصهم مباشرة على صدور الرجال والنساء في ذلك اليوم، كان بفعل الصدمة، والشعور الطاغي بالخيبة والفشل، وأن أوهامهم تذهب هباء، بينما الحقائق الأولى، والأسئلة الأولى، ومفردات الصراع الأولى، ما تزال حاضرة في قمة الحضور، وأن الانبعاث الفلسطيني أقوى ألف مرة من عبثية الترتيبات التآمرية رغم قوة القائمين عليها، وأن هذا الانبعاث الفلسطيني له منبع واحد ووحيد وهو وجود الشعب الفلسطيني نفسه محتفظا بذاكرته الوطنية، متمسكا بوعيه بذاته كشعب، مدافعا عنيدا عن خصائص الهوية الوطنية، وأن هذا الشعب لا يمكن استيعابه في أي بديل، فهو الشعب الفلسطيني وهذا هو وطنه فلسطين، وهذه هي الحقيقة الأولى، الحقيقة الخارقة الفاعلة الأساسية، أما دون ذلك أو غير ذلك، فليس سوى تفاصيل متغيرة في الزمان والمكان على طريق الحقيقة الأولى المستمرة الخالدة.
التراجيديا الفلسطينية مذهلة، متعمقة الأبعاد والأعماق والفاعلية، ولكن حين نغوص فيها بوعي شامل، فسوف نرى أن اختباراتها القاسية كانت دائما لصالح هذا الشعب الصغير العظيم الخارق الذي هو الشعب الفلسطيني!!! وأن انبعاث يوم الأرض هو استمرار لانبعاثات خارقة على امتداد الأربع وستين سنة الأخيرة.
أولم يصنع سكان الخيام الذين داهمتهم السيول والأوبئة وهم واقفون في طوابير أمام مراكز وكالة الغوث في انتظار لقمة تسد الرمق، ألم يستلموا راية الثورة العالمية، ويصنعوا أعظم ثورات التاريخ الانساني، ثورة بساط الريح، ثورة المستحيل، وثورة الحجارة، وثورة الأجيال التي عبرت كل بحور وصحارى النسيان لتحضر بذاكرة ملهمة؟ الفلسطينيون الذين ظلوا بأرضهم داخل فلسطين بعد النكبة وحيدين أمام سياسات الأسرلة والذوبان وفقدان الملامح اعادوا الحياة عبر مبدعيهم الكبار أمثال توفيق زياد وإميل حبيبي وسميح القاسم ومحمود درويش وغيرهم المئات، وأعادوا الألق إلى اللغة العربية ؟
ألم يتحول الشتات الفلسطيني الذي بلا حدود، إلى حضور مذهل للسؤال الفلسطيني في هذا الكون ؟
يوم الأرض هو هذا المعنى، يوم الأرض هو هذه الرسالة، وبالتالي فإن أعظم عمق نضالي وكفاحي في خط سير القضية هو وجود الشعب الفلسطيني نفسه، وتعزيز عناصر صموده وإدانة أي طرف يضعف بوعي أو بدون وعي نسيج هذا الوجود والصمود، بحيث تبقى هذه القضية فوق الاستخدام، وفوق المقايضة الرخيصة، وفوق كل الأوهام، هذه هي ذاكرة يوم الأرض وهذا هو المعنى وتلكم هي الرسالة.