نعتقد أن أسوأ ما يحدث لنا الآن بالتوازي مع حملة الإبادة الدموية الاستعمارية الصهيونية على شعبنا، عملية تجريد الإنسان العربي من قدراته الإنسانية، وأهمها التعقل والتفكير والإدراك والوعي، والحكمة والبحث العلمي لاستخلاص العبر، لتسهيل طحن عظامه بين حجري رحى المشروع الاستعماري الصهيوني، وورثة الإمبراطورية الفارسية، حيث يتقوى كل منهما على الآخر باستخدام "الدين" لتسعير نيران حروبهما، وبلوغ أهدافهما الخاصة منها.

فلا إيران الفارسية بوجهها المذهبي الإسلاموي تشكل تهديدًا وجوديًا على اليهود كما تدعي منظومة الاحتلال والاستيطان العنصرية "إسرائيل" ولا الصهيونية الدينية الحاكمة في إسرائيل صادقة باعتبار إيران عدوًا وتهديدًا إستراتيجيًا لوجودها، فهذا التهديد يعلم كل متابع للسياسة الإسرائيلية متى وكيف تم اختراعه وتصنيعه وتجسيمه كوحش خرافي، لتحقيق هدف التطبيع وتبرير اتفاقيات "ابراهام" مع دول عربية، كان لا بد من إسقاطها في فخ الرعب من النووي الإيراني المفترض، للمسارعة في عملية الزحف نحو مظلة دولة الاحتلال والاستيطان، وربطها بمشاريع استعمارية واقتصادية بعيدة المدى، لكنها تقع ضمن مجال منظور وعمق ميدان الأفق المرئي وفق خريطة بنيامين نتنياهو التي رفعها مرارًا وشرحها على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، فالأمر متعلق بمحاولة كل طرف حماية مصالحة الإستراتيجية، المرتبطة بما يسمى "الأمن القومي" رغم وقوعها خارج نطاق جغرافية وحدود الدولتين، فحزب الله بخلاف حماس أمن قومي لإيران بحكم الارتباط العضوي، لذلك سارعت إيران بتوجيه ضربة لإسرائيل بعد بضعة أيام فقط على اغتيال منظومة الاحتلال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، وما سبق ذلك من ضربات شديدة التأثير على هيكلية قيادات الحزب العسكرية، دفعت بمسؤولين إيرانيين للتصريح علنًا: "سنعيد بناء شبكة اتصالات جديدة للحزب، وتشكيل قيادة جديدة له" وهذا تعبير شديد الوضوح حول مكان مركزية القرار، والمتحكم بغرفة قيادة الأمن القومي الذي ليس لحماس أو غيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة أي اعتبار فيها، ومع تغاضي إيران عن اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس، رغم حدوثه في قلب ومركز العاصمة الإيرانية طهران لأكثر من خمسين يومًا تحت عنوان "الصبر الاستراتيجي"، إلا أن الدليل على ما نراه بالبصيرة، أما القدس ومقدساتها الإسلامية وعلى رأسها المسجد الأقصى، وفلسطين وشعبها، ولبنان عمومًا، والطائفة الشيعية خصوصًا فإنها لم تكن حاضرة ولن تكون كذلك أبدًا، والدليل على ما نقرأ أن قادة إيران كافة، الساسة وعسكر الحرس الثوري لم يأت على ذكر القدس والأقصى وفلسطين عمومًا وغزة حيث ذروة الإبادة الدموية خصوصًا.

ولم تذكر الحرب على لبنان عمومًا، والجنوب وضاحية بيروت خصوصًا، على لسان واحد منهم أبدًا، بل على العكس فقد أظهرت صورهم وهم سعداء بتحقيق هدف الانبهار الذي انتزعوه من عامة جماهير فلسطينية وعربية، ومن شخصيات أوجدها الزمان بغفلة ما في مواقع صناعة الرأي العام والمواقف، والتحليلات العسكرية والسياسية مناصب برلمانية، فالانبهار من الظواهر كان الدافع لدى كثير من الجماعات البشرية لتقديسها، لكن المؤلم أن البعض قد فعل هذا ونحن في القرن الواحد والعشرين، وفي زمن يمتلك فيه كل فرد قدرة الاطلاع على الحقائق والوقائع وتفسيراتها ومعارفها وعلومها وخصائها في العالم بواسطة جهاز صغير يحمله في جيبه هاتف ذكي أو حتى نصف ذكي، وهنا يمكننا وضع الإصبع على الجرح، ونقول إن القائمين على تدوير حجري الرحى معنيان بتفريغ جماهيرنا من أدنى نقاط الذكاء، كالأسلحة غير المذخرة تمامًا، لتبقى تهلل وتنبهر، بينما دماء أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا تسفكها آلة حرب جيش الصهيونية الدينية، وغطرسة ساستها العنصريين، فالإبادة مستمرة، تموهها جعجعة التصريحات بالانتصارات والنسب المئوية والفشل من الجهتين، أما الفلسطيني واللبناني فقد دفع ثمن صورة الانبهار في دقائقها المحدودة مئات الشهداء جلهم أطفال.