التحرر من ضغوط الجغرافيا السياسية، مقابل الحفاظ على العمق الاستراتيجي للحق الفلسطيني عربيًا وإنسانيًا، إحدى أهم المعادلات التي بتطبيقها، نجحت حركة التحرر الوطنية الفلسطينية في الحفاظ على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، ومنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أما حكمة العقل الوطني، فتتجلى في اعتبار جغرافية الوطن التاريخي والطبيعي، ميدان الشعب الفلسطيني الأول والأخير لمواجهة المنظومة "الاستعمارية الصهيونية"، التي نظمت خطتها على أساس احتلال أرض فلسطين كخطوة لاجتثاث الشعب الفلسطيني وقطعه عن جذوره الحضارية، وطمس هويته الوطنية والعربية والإنسانية.

كان نجاح العقل الوطني في تجسيد هذه المعادلة، عملية إنقاذ للروح المعنوية، أعادت التوازن لرؤية وبصيرة نسبة عالية من المناضلين، ظنوا أن الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 1982، وخروج  القوات العسكرية لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية بعد معركة بيروت الشهيرة، ستكون نقطة النهاية لمرحلة كفاح ميداني، ونضال شعبي وسياسي على المستويات كافة، لاعتقادهم بخسارة "جغرافيا لبنان" باعتبارها آخر قواعد الارتكاز والانطلاق للعمل الميداني حول فلسطين المحتلة، وقد تكونت هذه القناعات لأسباب كثيرة منها انعدام معرفتهم بحجم الضغوط  التي تعرضت لها قيادة حركة التحرر الوطنية الفلسطينية لإسقاطها في مربع العمل "كمستخدم ناري" ينفذ أوامر أنظمة رسمية عربية، ودول فاعلة في الإقليم، ووعدت بمنحها ما تحتاجه من دعم سياسي وإعلامي للتغطية على تحولها من حركة تحرر وطنية إلى عصابات منظمة جيدًا "مافيا" لكن تحت مسميات "وطنية وإسلاموية وقومية ويسارية"، وفعلاً سقط البعض في الفخ، واستطاع تكوين أرضية شعبية، بمساندة مادية سخية من هذه الأنظمة، وعبر أعظم وأفظع عملية خداع على مستوى الشعوب في القرن الواحد والعشرين، حيث الاغتيال البطيء للوعي والانتماء الوطني، وإعلاء الانتماءات الفئوية، الطائفية، المذهبية الجهوية، والجغرافية، ونشر مسببات الصراعات الداخلية، حتى أن بعضهم جهر بانحرافه عن الصراع الأساسي مع المشروع الاستعماري الصهيوني، وتركيزه على صراع ما يفترض أنه العمق الاستراتيجي العربي للحق الفلسطيني، وانخرط  فعليًا في حروب داخلية، وبات متهمًا بسفك دماء عربية، ولعل فرع جماعة الإخوان المسلمين المسلح في فلسطين المسمى "حماس" مثال شديد الوضوح. لذلك سارع منتهزو الفرص للانقلاب على الحق الفلسطيني، وبرروا مواقفهم بانقلاب حماس على الهوية الوطنية الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتحولها إلى حالة مشبوهة لا يؤمن جانبها، إثر انكشاف تورطها كمستخدم ناري، وجهر معظم قادتها بالطاعة لنظام بلاد فارس المذهبي، ولا يخفى على أحد أن إيران كدولة وريثة لإمبراطورية استعمارية، قد غسلت أدمغة المستخدمين الناريين وأدخلتهم في منظومة مشروعها الإقليمي وهم يعلمون جيدًا ما يفعلون، ولن نفترض عكس ذلك، ونعتقد أنهم شركاء في وضع شعوب عربية ومقدراتها ومصائرها بين فكي كماشة الاستعمار الدولي والصهيوني من جهة، والقومي الفارسي المتجلبب والمتعمم بالمذهبي من جهة أخرى.

تكمن مصيبتنا بتبعية المستخدمين الناريين وطاعتهم العمياء، وبسياساتهم الخرقاء، لأنهم يشدون الحق الفلسطيني لإرجاعه إلى جحيم صراعات وحروب ونزاعات ومنافسات الجغرافيا السياسية، بعد نجاح  العقل الوطني الفلسطيني بتثبيت فلسطين والحق الفلسطيني على خريطة العالم الجيوسياسية وفي قاموس القانون الدولي، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الشرعية الدولية، عندما كثفت القيادة الفلسطينية النضال في فضاء وميادين القانون الدولي، وثبتت مشروع الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على أرض فلسطين، ومن لم يفهم بعد أهداف تحرير الحق الفلسطيني من ضغوط الجغرافيا السياسية، عليه أن يقرأ ويفكر للمرة المليون، لماذا ابتدأ الرئيس أبو مازن خطابه الأخير على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بثلاثية: "لن نرحل، لن نرحل، لن نرحل، فلسطين وطننا، وهي أرض آبائنا وأجدادنا، وستبقى لنا"، ولماذا كان جواب القائد أبو عمار –رحمه الله- : "إلى فلسطين" ردًا على سؤال صحفي: "إلى أين" أثناء خروجه من بيروت سنة 1982، ففلسطين في العقل والفكر والعمل الوطني أم جغرافيا العالم.