الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

كان والدي رجلاً عصاميًّا، استطاع بكدّه وجهده أن يمتلك مزرعةً مساحتها 54 دونمًا في قرية صفورية، وفيها كثيرٌ من أشجار الزيتون والتّين واللّوز. كما امتلك أراضي زراعية في قُرى أخرى مجاورة، مثل: أم الفرج، عرابة البطوف، كفر كنّا.. وعندما زرتُ قريتنا في عام 1983، شاهدتُ آثار البئر التي حفرها والدي بساعدَيه مستعملاً المعول والرّفش.

إلى جانب عمله في إعمار الأرض بالأشجار والفلاحة، كان والدي واعيًا بالاستعمار الإنجليزي لفلسطين، وبالهجرة اليهودية التي أخذت تتزايد إلى بلادنا. ولم يكتف والدي بشنّ الهجومات الليلية مع أصدقائه على اليهود، بل انضمّ إلى مجموعات أخرى من المجاهدين والثوّار الذين كانوا يحاربون الاستعمار والهجرة اليهودية، وبعد ذلك انضمّ إلى مجموعة "عز الدين القسام" شيخ المجاهدين في فلسطين.

في الثلاثين من شهر ماي 1945، تمّ الهجوم على بلدتنا من قِبل اليهود، وقد استبسل أهل بلدتي صفوريّة في الدفاع عنها وعن أراضيهم وأملاكهم وحقهم المشروع في وطنهم، وقد كبّدوا العدوَّ خسائرًا كبيرة، ممّا اضطره إلى استخدام الطائرات، حيث قصف بلدتنا، فتحوَّلت الأرضُ إلى جثثٍ مُنتشرةٍ غارقة في دماءٍ لا تنضب.. إضافة إلى أعدادٍ كبيرة من الجرحى والمُصابين، وقد كان والدي أحد المصابين، فقد أصيب في خاصرته، ونُقل إلى الدِّير لكي تتمّ معالجته.

في السادس عشر تموز/ جويلية من العام نفسه، أخلِيَت قرية صفورية بالكامل، واضطرّ الأهالي إلى هجرتها.. وتسنّى لليهود بعد ذلك أن يتوجّهوا إلى بلدة الناصرة ومحاصرتها.

خرج جدي لأمي وأخوالي واصطحبوا معهم والدتي وكان معهم ثلاثة أطفال وشابان هما أخويّا من والدي من زواجٍ سابقٍ له قَبل والدتي.. كانت الهجرة الأولى إلى جنوب لبنان، حيث وصلوا إلى قرية "بنت جبيل" ومكثوا فيها مدّةً ليست بالطويلة إلى حين يلتحق بهم والدي. وأثناء نزوحهم من فلسطين، تعرّضوا إلى هجوم من "الشّاباك"، وكانت والدتي تحضن أختي الرّضيعة التي لم تتحمّل مَشقّة الطريق وظروف الرّحلة القاسية، فمرضَت كثيرًا، ثم أسلمَت الروح إلى بارئها في بلدة "بنت جبيل" اللبنانية.

عند وصول والدي والتحاقه بأفراد العائلة، استمرّوا في النزوح حتى وصلوا إلى بلدة "الغازية" في جنوب لبنان، ومكثوا فيها بضعة أشهر، ولكن والدي قرّر الذهاب مُجدّدًا من نزوح إلى نزوح آخر حيث استقر به المقام حتى حينه في منطقة بمدينة بيروت تُدعى "عين الرُّمّانة".
 
كانت معظم مناطق بيروت في ذلك الوقت أراضًا شبه خالية من المباني العمرانية، ومعظمها أراضٍ سهليّة زراعية أو وعرة، وليست كما هي اليوم.. وجد والدي أرضًا زراعية ملائمة للعمل والإقامة في تلك البلدة الصغيرة، فاستأجرها وبنى للعائلة بيتا في طرف بساتينها. ولكونه فلاح قديم ومزارع مُتعلّق بالأرض، فإنه لم يسكن في أيٍّ من المُخيّمات الفلسطينية في ذلك الوقت.

بعد انتهاء عقد استئجاره للأرض، راح يبحث عن مكان آخر.. حتى استقرّ به الحال أخيرًا في منطقة "الحدث"، إلى غاية بداية الحرب الأهلية اللبنانية في الثالث عشر من شهر أفريل/ نيسان 1975 كما يؤرّخ اللبنانيون بدايَتها التي انطلقت من حادث "بوسطة عين الرمانة"..