بقـلم/ محمد سرور

صبرا وشاتيلا المجزرة، ترحِّب بما تبقَّى لديكم من أسى مرّ. تنحني لبقايا النخوة في بقاياكم العزيزة.
لا حلوى تهديكم ولا لعب أطفال.. وما تبقّى، مساحة واسعة لنفايات نسياننا، وبعض الشواهد الخجولة في المكان المهجور، إلاّ من رفاتِ أهل المجزرة.
لو تدرون بلاغة الصمت هناك.. حشمة المنزرعين في باطن سهادهم الأبدي. لو تدرون كم فراشة نزفتها أحلام انتظارهم السرمدي.. كم دمعة محبٍّ مات ملحُ الحياة في ظلمة هزيمتها.
لا تختموا العظام بأسماء أهلها.. فالساكنون هنا أهلٌ.. لا يفرقون بين عظامهم.. ولا تختموا الأسماء بشواهد العابرين كواكب المراثي، فالساكنون هنا.. يتمشّون في ميادين ارتحالهم.. كالسائحين بين عوالم الأمس بشغف المكتشفين.
لا تخلعْ نعالك أيها المشتاق لصرحنا، بل حاذر على سروالكَ من غبار البقايا الرتيبة.. إننا أيها المشتاق أوفياءُ الهويَّة المخيَّم... لمعنى أن تكون على الحافة بين ثقل الاقامة وخفة الرحيل..
نحن أيها المشتاق لذكرانا، لم نزلْ نردِّد إيحاءات الصحو في صباح مغيبنا الغرّ.. لأننا لم نطفئْ شموعَ الغيلة من ركام أجسادنا.
لم نزل هنا.. في تغريبتنا المظلمة، نتقاسم العتمة.. كالخبز، ونشمُّ رائحة موتنا الرطبة كالمريمية والبخور.. ولا نملُّ تكرار الحكاية عن خيبة الناجين، الذين تلفَّحهم حزنُ البقاء المؤبد.
صبرا وشاتيلا.. المجزرة، تهدي النسيان فظاعات السواطير والسيوف والخناجر.. كلَّ الطعنات العميقة في أبدان أهلها الساكنين غيابهم.
دواعشُ ذلك الصباح، لم يأتوا بدشاديشَ وقنابيز وعمائم، ولا بسملوا وحمدوا على ذبائحهم..
ما أجملهم يومها.. لم يضعوا علامات على الأعناق والرقاب، ولا سألوا أهل المكان عن هوية وعمرٍ وسبب للشفاعة.. كان همَّهم أن يبيدوا الحياة دون كلفة.. ويصحِّروا المكان بلا شبهة..
لم الاجتهاد في السؤال عن داعش وأخواتها اليوم؟ فالساطور هو نفسه، كذلك السيف والخنجر والسكين... كان الغائب يومها أسم الله والدعاء ببركة انبيائه.
فظاعات اليوم تستدعي أساطيل الجو وأخيلة الغضب المكثف في أعنَّة الموت.. ونحن هنا.. في تغريبتنا المظلمة نتضرَّع إلى الله وبقايا ذاكرة عباده أن لا نُنسى.. ويذبح فوقنا الصرحُ الذي نستظل به ورعاً وخشية من تجار العقارات وباعة صكوك الغفران في سماءات المترفين.
ما أسهل النسيان في حواضرنا.. يخرج كالرغبة من ذاكرتنا، وما أكثر جراحنا التي استهوتها عادة النزف، نرحل كي نخلي الأمكنة لآخرين ينتظرون رحيلهم.. وكعادته دُمنا.. تشربه الأرض زلالاً، كأنه خفيف على أحشائها. يسفكه القاتل عنوة، كأن موتنا متعة للذين يشتهون الخلاءات، أولئك الذين يلقون زلازلهم على هشاشتنا، فتحنّي أشلاؤنا حواسّ الخيبة في غياهب شبقهم.
كالكذبة البيضاء نحن، يتنكرُ الغاوونَ لحقنِّا في إشهار موتنا، فتصيرُ الضحية وأحزانُ أهلها.. وشاهد قبرها.. لا أحد.
وحدنا في هذا العالم ندانُ لأننا نخدش ضمائرهم عندما يقتلوننا.. هنا.. في هذه البقعة من الكون تحاكم الضحيّة.. وتمتدحُ نخوة القاتل.. هنا وهنا فقط... يحزن القاتل فيمشي وراء جنازة قلبه الميت شاكياً أنين ما قبل موتنا، وآخر نظرات ضحاياه.. والفزعَ النافر من عيون أطفال وأمهات.
نحن الراقدون هنا... في حفرة ملتبسة بين الرمل والتراب، مدانون قبل أن نولد، بألواننا ولغتنا.. بوحول أزقة مخيماتنا والثقوب التي ترشح الماء والحرّ إلى حجراتنا. مدانون نحن لأننا خبَّأنا مفاتيح ديارنا وهويَّاتنا في الصدور والأوردة.. كيف لا ندان ونحن الدينُ في رقاب أمم واعدتْ الوقت على نسيان عظيم.
قالت الأمم لقاتلنا.. لا أثر للدم على يديك.. والموتى محضُ شبهةٍ رسمتها أنامل الرماد في أزقة الخيال...
لا تجزع أيها القاتل- قالت له الأمم.. فالمقبرة التي امتلأت جثامينَ وأشلاء غواية حزن لقوم يتبارون في العويل، ثم يهدأون.. فيولمون للنسيان ثكلهم.. لا تخفْ أيها القاتل.
كم مجزرة مرَّتْ فوقها يداك..؟ بيضاء لم تزل يداك.. منذ بداية زمانك وأنت تزرع الموتى في حقول بغيك.. لا مَنْ يسأل.. تابع تهشيم الجماجم إلى أن يصطدم الغريمُ بحائط الندم العالي.. قالت الأمم للقاتل.. لا تخفْ.
طالما اعتقدنا بأن لحمنا مرّ على أنيابهم، وأن ثأرنا قد يمهلهم، واعتقدنا أن عذاباتنا المزمنة والطاعنة بامتدادها وقساوتها قد تؤلف بيننا، فتمنح قلوبنا الرحمة والتسامح الجميل، ونصوِّب ما حملناه من شقاء وتعب وجراح إلى صدر ظالمنا وصانع نكباتنا الكثيرة- الكثيرة.
طالما اعتقدنا أن مساحة الوعي فينا تكفي كي ندرك السبب الذي انتج جلجتنا وطريق آلامنا. وندرك أننا جميعاً ضحايا الوحش الكاسر الذي أدمت أنيابُه خواطرنا وتاريخنا ومصيرنا وكلَّ لحظة مررنا بويلاتها وأثقالها.
نحن الراقدون في مثوانا البهي، نراكم بعيون أرواحنا.. بأمنياتنا التي لم ولن تموت، فلا تدَّعوا نصراً خندقه دمُنا.. ولا تضعوا موتنا في خانة الفصائل والأطراف والجهات.. لا هويَّة للبذل، ولا منَّة للباذل على قضيته ومصير شعبه.. فالنصر لا أن تموت واقفاً ومنتصباً فقط، إنما النصر التواضع الملهم والعطاء من باب الواجب لا الاستثمار... دماءُ الشعوب أمانات في رقاب أهل العزم منهم، وليست ورقة تباع في أسواق النخاسة والمزادات.
صبرا وشاتيلا- المجزرة، لا يهمُّها وفود الزائرين، ولا أعداد قرّاء سورة الفاتحة والأدعية التي تطلب الرحمة لمظلومية ضحايا المجزرة فقط، ما يهمُّها القلوب الهائمة بالمحبة والحرص على الأحياء، ومباغتة الصديق قبل العدو بوحدة حقيقية واحترام شعب أعطى ولم يزل دون حساب.. فلا تخذلوا الأحياء كما خذلتم الأموات..
الموقعون أدناه: ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا.