عاد مرة أخرى هاجس الحرب الإسرائيلية المدمرة ليسكن نفوس أبناء قطاع غزة بعد تصاعد العدوان الاسرائيلي على القطاع والتهديدات الاسرائيلية المتكررة بشن حرب جديدة ضد غزة. فمن ذاق مرارة الحرب ومآسيها وويلاتها على جلده لا شك يخشى ان تتكرر الكارثة مرة اخرى ودروس التاريخ في الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي تقول ان كل حرب جديدة تكون أشرس وأكثر دموية من سابقاتها، حيث يتعلم جيش الاحتلال في كل مرة كيف يوقع أكبر عدد من الخسائر البشرية والمادية في صفوف الفلسطينيين. ومع ذلك تبدو حركة "حماس" وحدها التي تعيش حالة من الارتباك والتناقضات التي تؤثر على سلوكها ومواقفها تجاه المخاطر المحدقة بالقطاع وكذلك المحدقة بحركة "حماس" ومستقبل سلطتها الانقلابية.
الاسرائيليون يقولون بوضوح ان الحرب على غزة هي مسألة وقت لا اكثر، وهي على الاغلب مرتبطة بالمصالح الاسرائيلية القصيرة والبعيدة المدى. فالأجهزة الأمنية الاسرائيلية تدرس كل الخيارات وتضع نصب أعينها تصورات للوضع في غزة ما بعد الحرب. والاتجاه الأبرز للتفكير الاسرائيلي يتركز في شن حرب شاملة تنهي فيها اسرائيل حكم "حماس" في غزة. ولكن يبقى السؤال الذي على ما يبدو تختلف الإجابة عليه من جهة الى اخرى هو: هل في مصلحة اسرائيل الآن القضاء على سلطة "حماس" وتوفير الفرصة لعودة السلطة الشرعية للسيطرة على قطاع غزة من جديد؟ وهنا ترتبط الاجابة بالموقف من العملية السياسية. فموقف حكومة نتنياهو يتناقض تماماً مع أية رغبة او مسعى لإنجاح هذه العملية والتوصل الى اتفاق سلام مع الجانب الفلسطيني، هذا واضح تماماً ليس فقط في تصريحات المسؤولين الاسرائيليين من ليبرمان وزير الخارجية وحتى نتنياهو رئيس الوزراء، بل هو اكثر وضوحاً في فشل الادارة الاميركية في دفع الحكومة الاسرائيلية الى اتخاذ موقف ابسط من ذلك بكثير يتلخص في تجميد الاستيطان كمتطلب للبدء في مفاوضات سياسية جادة. وبالتالي فشلها في استئناف العملية التفاوضية.
وبالتالي فمن الطبيعي ان حكومة نتنياهو لا ترغب في القضاء على حكم "حماس" لأن معنى ذلك توحيد جناحي الوطن الفلسطيني الذي يمثل الدولة العتيدة تحت سلطة واحدة تمثلها الشرعية الفلسطينية الواحدة برئاسة الرئيس محمود عباس، فمثل هذه الخطوة ستزيد من قوة الطرف الفلسطيني الذي يواجه اسرائيل في معركة المفاوضات والبحث عن حل سلمي للصراع. وهذا ليس في صالح الحكومة الاسرائيلية.
لذلك، ربما تكون الحرب الشاملة ذات الاهداف المحددة اعلاه غير واردة في هذه المرحلة، الا اذا حصلت تطورات ميدانية تدفع اسرائيل الى المضي قدماً في حرب قد لا تتوقف عند معاقبة قطاع غزة، من قبيل سقوط عدد كبير من الصواريخ وسقوط ضحايا او قتلى اسرائيليين من المدنيين على وجه الخصوص.
لكن هذا لا يعني بالضرورة ألا تقوم اسرائيل بضربات قوية وقاسية ضد قطاع غزة وبالذات ضد الفصائل المسلحة هناك وربما ايضاً ضد مؤسسات "حماس" او بعض رموزها، في خطوة تهدف الى طمأنة الرأي العام في اسرائيل الى ان الحكومة لا تقف مكتوفة الايدي أمام ما تسميه "الاعتداءات الإرهابية" ضد السكان المدنيين.
ومن المنطقي انه عندما لا تكون هناك عملية سياسية او مفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي ان يرتفع صوت التطرف والعنف، وتعلو أصوات الاسلحة والقصف المتبادل، لأن هذه الحلبة السياسية والميدانية في المنطقة لا تحب الهدوء والجمود لفترات طويلة. هذا عدا كون هذه المنطقة ملعباً مهماً وحيوياً لأطراف اقليمية ودولية لها مصالحها التي لا تتوافق بالضرورة مع مصالح اللاعبين في المنطقة.
الغريب في هذا الوضع هو ما يصدر عن قادة "حماس" من مواقف وتصريحات متناقضة تدل على الارتباك والخوف ليس فقط من الحرب وإنما كذلك من مصارحة الناس بالحقائق. فتارة تجدهم يستبعدون الحرب كما يقول اسماعيل هنية، ويتحدثون عن مبالغة اسرائيل في تقدير قوة "حماس" لتبرير العدوان والبطش ضد قطاع غزة، وتارة اخرى نسمع تفاخراً بقوة "القسام" الكبيرة التي ترعب اسرائيل وتجعلها تفكر ألف مرة قبل الإقدام على أية مغامرة أو حرب في قطاع غزة على اعتبار ان "المقاومة في قطاع غزة ستحقق نتائج سياسية وعسكرية مذهلة على الساحة الفلسطينية والاقليمية في حال إقدام الاحتلال على شن حرب جديدة عليها"، كما صرح بذلك أسامة حمدان في لقاء مع قناة "المنار" مساء يوم الاثنين الماضي. بل ان فتحي حماد يقول ان "الأجهزة الأمنية (الحمساوية) شكلت سداً منيعاً في مواجهة تمدد الاحتلال الاسرائيلي".
فإذا كانت "حماس" تخشى من الحرب وهذا واقع الحال لأن تجربة الحرب الماضية أظهرت ان قوة "حماس" أشبه بنمر من ورق في مقابل القوة الاسرائيلية الرهيبة التي استخدمت في قطاع غزة، ولم تنجح هذه القوة في مفاجأة العدو الاسرائيلي كما كانت تدعي وتطبل طوال الوقت قبل الحرب، كما ان خوف "حماس" يتبدى ايضاً في اعلان التهدئة من جانب واحد على لسان محمود الزهار، وفي قيام "حماس" بتسيير دوريات على حدود قطاع غزة لمنع اي طرف فلسطيني من اطلاق النار ضد جيش الاحتلال الاسرائيلي او الصواريخ ضد البلدات المجاورة للقطاع. وكل أبناء قطاع غزة يرون الانتشار الأمني الكثيف على الحدود الذي يتم بالتنسيق مع الاسرائيليين، والمواطنون يتعرضون للتفتيش لدى اقترابهم من المناطق الحدودية، عليها – أي على "حماس" – أن تعلن ذلك صراحة وتطلب من جميع القوى التوقف عن اطلاق النار بسبب ذلك دون محاولات التمويه والتغطية والادعاءات الكاذبة. وهذا يجب ان يكون الموقف في كل المناطق الفلسطينية، لأنه لا معنى في تجنب المواطنين في قطاع غزة ويلات الحرب، ومحاولة جر الضفة الغربية الى حالة الفوضى والدمار التي تخدم اسرائيل وتزيد من سيطرتها وتحكمها بمقاليد الأمور هناك بحجة ان "حماس" والفصائل متمسكة بخيار المقاومة، وان المقاومة يجب تركيزها في الضفة الغربية لتحريرها.
أما اذا كانت "حماس" قوية وقادرة على هزيمة اسرائيل فالمنطق يقول أن تسعى لجر اسرائيل الى حرب شاملة حتى تذيقها طعم الهزيمة المر، وحتى تفسح المجال أمام القسام ليستخدم هذه القوة ويخدم مشروع "حماس" الذي تراجع ووصل الى طريق مسدود ليس في فلسطين وحدها بل في العالم العربي بأسره الذي شهد هزائم متتالية لحركة الإخوان المسلمين في اكثر من بلد عربي.