سلسلة حلقات "لماذا انا فتح؟"

من الحلقة الأولى-الى الحلقة الخامسة

 

 

 المحامي لؤي عبده    

عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"

الحلقة الأولى

تميزت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" عن غيرها من الحركات الوطنية، أنها حركة تحرر وطني، حددت تناقض شعبها الرئيسي أين؟ وكذلك أقرت كل أشكال النضال، كوسائل للوصول إلى الهدف وتحقيق الإنجاز تلو الآخر. وقد يكون شعار تحرير فلسطين مازال بعيد المنال. ولكن طبيعة القضية الفلسطينية فرضت على أن نميز ما بين تحقيق الهدف وتحقيق الإنجاز، لما تعرض له شعبنا الفلسطيني من استعمار لبلاده، ونكبة، واحتلال، وتشريد وتشتت ولجوء، واحلال بنيه استيطانية مكانه في فلسطين التاريخية، ممثلة بالحركة الصهيونية وأدواتها. وإسرائيل واستيطانها، عبر طريقة الإرهاب وسياسة الأمر الواقع، وتهويد القدس، ونكران وجود الشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير مصيره، وتجاهل القوانين والأعراف الدولية. وفي مقدمتها القانون الدولي العام. والقانون الدولي الإنساني، واتفاقية جنيف الرابعة وقرارات الأمم المتحدة والهيئات الدولية الحكومية وغير الحكومية.

واستطاعت حركة فتح ومنذ انطلاقتها عام 1965م ، أن تحدد سبب المشكلة الفلسطينية والتناقض الرئيسي (العدو) الصهيوني، وتعاملت مع هذا التناقض على أنه أولوية الأولويات وإن كانت المعركة الوطنية قد بدأ الحشد لها من المنافي، والمخيمات (مخيمات اللجوء في الدول العربية).

وراحت هذه الحركة، تعمل على استيقاظ كل فلسطيني وفلسطينية، للنهوض بالحال والواقع إلى مستوى إعادة إحياء الهوية الوطنية لشعبنا وتأجيج الصراع العربي/ الإسرائيلي بكفاح مسلح فلسطيني، مما يعني استيقاظ الضمير العربي لدى جماهير أمتنا العربية، عبر صوت الرصاص، والقنابل بحرب فدائية تتبع نظام المجموعات، ونظرية "اضرب واهرب" وهي الشعلة التي أضاءت كل هذه المساحة حول فلسطين بعد أن سادها ظلام دامس منذ عام 1948.

فتح هي الحركة التي حدد عدوها المركزي، وحلفائها النضاليون، وخصومها السياسيون، من أحزاب وحكومات، وكذلك هي الحركة التي طرحت لشعبها مفهوم النضال الوطني الشامل، دون اللجوء إلى استخدام أيديولوجية، أو عقيدة مغلقة، لماذا؟

لأن فتح أدركت منذ البداية أنها تنتمي لشعب فيه التعددية الفكرية، والسياسية، والعقائدية والديانات وغيره.

ولذا جاءت لترد على كل المشككين بالنضال الوطني وأبعاده على الهوية، بل واستطاعت أن تكشف للقاصي والداني أن النضال ضد العدو المركزي، أمر ممكن تستطيع الجماهير الفلسطينية والعربية والصديقة، أن تخوضه مباشرة دون عناء وإدعاءات النظام العربي الذي ربط مستقبله بفلسطين ومصير شعبها بنظرياته السياسية، والعسكرية منتظر أن يصل جيشه إلى المستوى المطلوب لخوض حرب تقليدية. أو لاستخدام شعار تحرير فلسطين للهو، والمزايدة، وإطفاء أي شعله قد تشتعل هنا أو هناك بإرداة فلسطينية، بالرغم أن هذا النظام لم ييأس، فراح واتبع ذات الطريقة التي نادت إليها فتح، وقام بتشكيل فصائل له للقيام بهذا الدور، وطبقاً لسياسته ومصالحه في مسألة الصراع العربي/ الإسرائيلي، أمام الجماهير والأحزاب والقوى المعارضة له.

إن تشخيص فتح آنذاك كان صحيحاً في سلم التناقضات، لكن فتح كانت تدرك بعمق أن أي رصاصة تنطلق من اي أرض عربية مجاورة لفلسطين، لن يسمح لها،  ولن يعطي لها امتياز للتحرك والتواجد على تلك الأرض إلى بثمن باهض على الثورة  أن تدفعه لذلك النظام السائد.

وكانت الأجيال تدرك أن هذه المعركة طويلة الأجل، فالعدو قوي ومسيطر، والثورة المنوي الوصول إليها، تفقد الأرض، وهي وإن وجدت فيها أرض الغير، والتحرك سراً لسنوات طويلة وقد تفشل إن لم تجد المناخ والبيئة الجماهيرية لإحتضانها ورعايتها، ومدها بالمال والسلاح والناس. على الرغم من الهدف النبيل والظاهرة التي مثلتها أمام الشعوب العربية، لكنها كانت مستهدفة إلى حد بعيد، وأنها ستكون في بحر كبير من التناقضات. من هنا قيل أنها مغامرة، : اي الثورة" وأنها عمل طائش، يقودها ثلة من المغامرين المجانين.

وبالرغم من الذكاء والحكمة في اختيار الشعارات والمفاهيم والمنطلقات، لتجنيبها أي معركة جانبية، إلا أن المتوقع قد حصل، ودفع الثمن باهظاً من لحمها ولحم الجماهير الفلسطينية والعربية التي التقت حولها، وكان هناك أكثر من مأساة، بل وأكثر من جريمة قد وقعت بحقها وحق مناضليها وفدائييها في الدول العربية المحاذية لفلسطين وفي مخيمات اللجوء. لكن القانون الذي تحول إلى دافع أساس لكل من اتبع تلك التجربة، كان قانون الإرادة، الإصرار، التواصل، لتحقيق مفهوم دعومة الثورة. وهو الأمر الذي حيّر وأربك الجميع وربما فيما بعد فرض عليهم، أن يعترفوا بها اعترافاً لا شك حوله، لما أبدته الأجيال من تواصل والتفاف وتمسك بها، فهي كانت المصير، والمستقبل، وهو الحق الذي اكتسبه شعبنا بجدارة واحترام.

 

الحلقة الثانية 

التساؤل الذي أثار جدل واسع بين الأوساط المتنوعة- السياسية والفكرية وقادة الرأي، كان كيف يمكن لثورة مسلحة تستطيع أن تخوض تجربتها من على أرض الغير؟ من المنافي؟ من الخارج إلى الداخل؟

وخاصة وأن الواقع العربي قد رسمت خارطته الجغرافية والسياسية، وقسم الوطن الكبير إلى دول وإمارات ومحميات بعد الحرب العالمية الثانية.

هذه الثورة لم تكن ذات إعداد وإمكانات حقيقية يمكن أن تساعد جماهيرها على النهوض، والإلتحاق بصفوفها، فقد أمضت حركة فتح ومناضليها عشرات السنين تغوص في العمل السري، أي كانت حركة محظورة النشاط والعمل، تنظيمياً وسياسياً وعسكرياً.

اذا  ما هو اللغز الذي جعل المئات من أبناء شعبنا أن يحمل على أكتافهم وكاهلهم هذه المسؤولية، في أجواء عربية كلها ملاحقة، واعتقال، وكل كان يعرف مصيره إذا ما التحق بهذا الركب. ورغم ذلك استمر العمل وتواصل الجهد والعطاء، وفرضت حركة فتح نفسها على أرض الواقع العربي.

لكن ذلك لم يكن أن يحصل لولا وجود فريقين متجادلين الأول، نظري، والثاني عملي. أن هناك من كان يريد دراسة الأوضاع والتأني وعدم الإستعجال باتخاذ قرار الإعلان عن الإنطلاقة، لأن الظروف ربما لم تكن بذلك النضج المطلوب، وهناك من اعتقد أن الأعمال هي التي قد تفرض ظروفاً جديدة، وواقعاً حقيقياً ومتغيراً. الميداني دائماً يصنع الحدث، من مفهوم أن هذا النهج يأتي بالسياسة، وليس العكس.

دون شك فإن هذا النهج هو الذي ساد وتحول إلى واقع ملموس فيه الحماسة والإندفاع نحو العمل.

جاء العمل الفتحاوي وتكون في ظروف عربية غاية بالصعوبة والمستحيل، وفي خصوصية فلسطين يعمها التشرد واللجوء والقهر، والظلم والجوع، والفقر، والحنين إلى الوطن. إن هذا الخليط من الأحاسيس والمشاعر، كفيل بتفجير ثورة.

فلا شيء يضاهي الاضطهاد والظلم وخاصة أن شعبنا كان أبناؤه مجسون به ويعيشونه لحظة بلحظة فالثورة دائماً يصفها الشعور بالظلم وليس الظلم لوحده فيجب أن نشعر به حتى تطلق العنان لغضبك وقهرك.

لقد كان الواقع المعاش في فلسطين والسلبية والوطن العربي مليء بالأسباب. فكرياً كان الشعور القومي يعم كل أجواء الجماهير، والحركات اليسارية والشيوعية وغيرها تنادي إلى التغيير، والشعارات الثورية في كل مكان، بل الدعوة إلى تحرير فلسطين، والنضال ضد الاستعمار والأمبريالية، والنظم الديكتاتورية، والاضطهاد الطبقي، والعمل النقابي والطلابي والرموز الثورية. ماوستونغ في الصين، وهوتشي منه في فيتنام، وكاسترو في كوبا، ولينن وكارل ماركس، وجمال عبد الناصر في الوطن العربي، وغيرهم.

تلك الأجواء التي سادت آنذاك تنقسم في ثلاث اتجاهات فكرية وسياسية وهي:

-    الاتجاه القومي.

-    الاتجاه الشيوعي والإشتراكي والتقدمي.

-    الاتجاه الإسلامي، الأصولي.

تفرع منها المدارس التشكيلية السياسية والحزبية المتعددة لكنها تحمل كل واحدة منها خصائص وميزات تختلف عن الأخرى. ولكن الشيء الذي تقاطعت عليه كلها كان شعار تحرير فلسطين. لكن كان السؤال الذي يطرح نفسه عليهم جميعاً. كيف؟

لا أحد كان يفكر للحظة واحدة، يمكنه أن يخرج إلى سطح الواقع، وينافس حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الإشتراكي في الاتجاه القومي، وكذلك الأحزاب الشيوعية والماركسية والإشتراكية في الاتجاه الشيوعي. وكذلك أيضاً جماعة الأخوان المسلمين وحزب التحرير والسلفيين والوهابيين والسنوسيين والمهديين وأتباع الحسن والحسين من أبناء الشيعة في الاتجاه الإسلامي ومعهم أكثر من سبعين فرقة أخرى.

كلها حركات وجماعات متجذرة في الواقع، لا يمكن لأي جماعة تنهض من هذا الواقع المزدحم بالحركات والنظريات والإيديولوجيات والعقائد المتعددة.

المشهد كان معقداً جداً في الوطن العربي، ويمكن تصوره بأي حال من الأحوال.

لا يمكن أن ندعي الواقع المعاش بأنه عصر الهرطقة أو السفسطة، بل كان حافل بالجدية والتعصب والعنفوان عصر شاب وشديد التمسك والإنتماء، عصر الكلمة والفكر والإيدلوجيا. فكيف يمكن لمجموعات صغيرة مبعثرة هنا وهناك في مصر، والخليج العربي، وسوريا ولبنان والأردن. أن تخرج إلى سطح الوطن العربي وتفرض وجودها وتوجهاتها.

يمكن القول والجزم بهذا، أن نظرية الكفاح المسلح كانت الإجابة القوية والصارمة على كل الإدعاءات والأحاديث والجدل الذي كان يسود.

هذه النظرية التي أطلقتها حركة فتح بجسدها الفلسطيني شكلت الرد على السؤال الكبير كيف يمكن تحرير فلسطين؟ هذا اللغز الذي أخذ بجمع كل الذين ضاجوا من رنين الشعارات وهتافات الحناجر في الشوارع العربية.

ويضاف إلى ذلك، مفهوم "العودة"، الذي وعدوا اللاجئين الفلسطينيين بها. وكل حسب طريقته، النظام الحاكم سيعيد الفلسطينيين الذين لجؤ إلى بلاده عبر جيشه الفاتح والذي سيدمر الاستعمار، بعد أن يكمل استعداده وتسليحه. والشيوعي بعد أن يبني نظامه الإشتراكي، والقومي بعد أن يوحد الوطن العربي والإسلامي بعد أن ينتهي من الدعوة.

كل اعتقد ذلك ولم يأتي أحد بشيء جديد سوى حركة فتح التي دعت إلى العودة طريق الوحدة والبنادق كل البنادق نحو العدو الصهيوني.

بهذا المفهوم استطاعت أن تلتقط دفة السفينة وتبحر في بحر النضال الوطني التحرري، في حرب الفدائيين المجموعات الصغيرة، التي تضرب هنا وهناك في فلسطين وحولها على الحدود أهداف إسرائيلية/ حتى يسمع الجميع صوت هذا الكفاح الفدائي المخلص والنقي من الإيديولوجيات والأصوليات والشعوذة السياسية.

ونجحت التجربة في نفق عيلبون، ومن ثم في غيرها إلى أن عم الكفاح كل المناطق والأماكن المستهدفة. وسمع الجميع صوت الرصاص ونشيد الفدائي، إلى أن وقعت هزيمة الجيوش العربية عام 1967م.

واحتل الجيش الإسرائيلي ما تبقى من أرض فلسطين والقدس إضافة إلى أجزاء أخرى من الوطن العربي في هضبة الجولان السورية، وجنوب لبنان، وشبه حزيرة سينا المصرية، الضفة الغربية وقطاع غزة.

إلى أن الخطاب العربي بكل تعدديته وإتجاهاته، بالعويل وبالبكاء والدعوة إلى الثأر والانتقام، وتفاقمت المسألة الفلسطينية فأصبح لدينا نزوح كما كان لدينا لجؤ في عام 1948.

من ناحية أخرى، وهو الأمر الهام في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، أن الجماهير لم تستسلم من الأمر الواقع الجديد ووقوع الهزيمة، فما أن استفاقت من الصدمة، تسارعت الشبيبة الفلسطينية والعربية إلى حمل السلام والإنضواء في طريق الثورة، التي دعت إليه حركة فتح، الواثقة من الاعتماد على النفس وليس على الشعارات ووعود الخطاب العربي الرسمي. وأخذت الكثير من المدارس التشكيلية السياسية آنذاك بالتحول إلى جهات وفصائل مسلحة لخوض هذا الطريق. طريق العودة إلى فلسطين.

 

الحلقة الثالثة 

عندما تجتمع العوامل - العناصر الطبيعية والذاتية والموضوعية – في مكان وزمان واحد فإنها تشكل النتيجة.

فسنبلة القمح عندما يتوفر لها عناصر البيئة، والتربة، والماء. بالتأكيد العناصر الطبيعية. فإنها تنمو وتعيش وتعطي حبة القمح.

وكذلك عندما تتوفر العناصر الذاتية لأي إنسان فإنه بالتأكيد سيصبح ناضجاً، وواعياً، وراشداً. وهي العناصر التي تكفل نمو الإنسان عقلياً وجسدياً واجتماعياً.

أما الموضوعي، فعندما تتوفر عناصره في الواقع المعاش فإن قضية ما تظهر وتصبح حقيقة لكنها موضوعية واقعية فيها كل العناصر الموضوعية.

فإذا ما تلاقت عناصر الذاتي مع عناصر الموضوعي فإن النتيجة حتمية. ولا شك بها، بل فإنها قضية موضوعية لا يمكن إزالتها، وعواملها شديدة البقاء والاستمرار.

هكذا حركة فتح تطابقت بالمفهوم والأسلوب والهدف مع قضية شعبنا. بل انبثقت من الموضوعي وتلاقت معه وأصبحت تشكل في واقع الثورة أكثر من سبعة وأربعين عاماً من التواصل والاستمرار.

فتح شكلت الذاتي، وقضية فلسطين شكلت الموضوعي برأيي واتحدا معاً وأصبحتا هوية وطنية ناضجة، توافق العالم عليها ومعها لما تملكه من عناصر موضوعية وذاتية.

المعادلة أن الحركة الصهيونية اتبعت العنصر الذاتي وفرضت وجودها، وحربها وغزوتها على أرض فلسطين وسببت بتشريد شعب وتمزيق حضارة حين رفعت شعار( أرض بلا شعب لشعب بلا وطن) لكنها أي هذه الحركة وكيانها إسرائيل لم تستطيع أن تفني الذات والموضوع الفلسطيني لطبيعة عواملها، وحقيقة تاريخها، ومهما كانت تلك القوة مدعومة ومنظمة، فإنها لا تستطيع أن تزيل الموضوعي.

لم يكن هناك أي تناقض بين عناصر الذاتي والموضوعي في العملية الفتحاوية، بل كانت عناصر متلاقية ومتحدة بعكس الآخرين الذين حاولوا أن يفرضوا على الموضوعي عناصرهم الذاتية، التي تسببت بالتناقض والاختلاف. ولذا سقطت شعاراتهم المذكورة سالفاً بالوحدة أولاً، أو بالإشتراكية أولاً، أو بالدعوة أولاً...ولم يفلحوا بذلك وذلك منذ فجر القرن الماضي. فما بالك بعد مئة عام من الصراع؟!

نحن نقول، أن البقاء للأصلح، أو الأفضل أو الأكثر انسجاماً مع قضية شعبه. فمن استطاع أن يجمع شتات هوية شعب وطنية ويضعها أمام العالم بشكل موضوعي فالبقاء له ولمن يسير على خطاه.

فحركة فتح آمنت بالمراحلية بعد أن أصبحت واقع وممارسة جمعت الهوية الوطنية الفلسطينية بعد أن طمست وأُخضعت لسياسات الغير ومصالحهم. وقدمت نفسها عبر مراحل طويلة وشاقة أنها فقط تسعى وراء الحرية، والعدل وتقرير المصير التي نصت عليه كل المواثيق والأعراف الدولية منذ الحرب العالمية الأولى في عصبة الأمم. أو في الأمم المتحدة وما بعدها من هيئات ومنظمات دولية.

أدركت هذه الحركة أن قضيتنا تحمل ثلاثة أبعاد أساسية الوطني، القومي، العالمي أي أنها فلسطينية الوجه، عربية العمق، إنسانية المطاف...وعلى أساسه راحت تطوف العالم في دوائره السياسية الدولية وهيئاته العالمية تشرح معاناة شعب ونضاله وحقوقه ومستقبله وحقه في تقرير مصيره على أرضه.

منذ البداية أخُذت هذه الأبعاد بعين الاعتبار والممارسة والتواصل عبر المراحلية وطوعت البرامج والآليات وحتى التكتيك والإستراتيجية لهذا الغرض حتى يؤتي بثماره ونتائجه العظيمة.

وهذا أيضاً لغز آخر يضاف إلى تجربة وعمل فتح في الميادين، والساحات. ومنه نضجت فكرة الاعتراف بالهوية السياسية والوطنية لنضال الشعب الفلسطيني وربما كانت فكرة التفاعل والإندماج أحياناً مع منظمة التحرير الفلسطينية حين الإعلان عنها كجزء أساسي في نضال فتح وتوجهاتها بالرغم من معارضة البعض لها. طالما كانت فكرة م.ت.ف الهدف منها مظلة للجميع، وكيان سياسي في المنفى لعموم الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والاجتماعية والثقافية.

فهذا لم يتناقض مع ما جاءت له فتح، عندما طرحت مشروعها حركة تحرير وطني فلسطيني يندمج فيها الكل الفلسطيني مهما مهما اختلفت مشاربه ومهما كانت منابعه الفكرية أو الطبقية طالما يؤمن بأهدافها ومفاهيمها ومنطلقاتها ويلتزم بها ويناضل من أجل حرية شعبه وتحرير وطنه.

ربما لم تنجح فتح بتلك الفكرة وخرج من خرج إلى حيز الوجود طارحاً أفكاره وأيديولوجيته وشعاراته وبأسلوبه سواء كان جبهوي أو حزبي.

إلا أن الفرصة تكررت ثانية عندما أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية واقع لا محالة، وحقيقة لا يمكن القفز عنها مهما كانت دوافع ومصالح ورؤية مؤسيسها.

يمكن القول والجزم أن فتح عندما تفاعلت واندمجت فيها، فإنها بدون شك أعطتها الدفعة اللازمة، ووفرت الرغبة للآخرين أن يلتحقوا بعضويتها القيادية والبرلمانية حتى يصبح هناك فعلاً ممثلاً واحداً لشعبنا، وأن تتحد جميع البنادق على أرض المعركة، وتكون لدينا ديمقراطية غابة البنادق لأن الشغل الشاغل كان ومازال أن ينصهر الجميع في طريق النضال من أجل تحرير فلسطين، ودحر الاحتلال عن بلادنا، وتحقيق حق عودة اللاجئين إلى ديارهم الذين طردوا منها.

هذه المعادلة السياسية المعقدة، أن يتم جمع الكل الفلسطيني في إطار واحد لفعل واحد وهدف واحد مشقة حقيقية وطريق طويل وصعب واستنزف دعاة القرار الوطني المستقل فيما بعد. لأن السؤال كان يطرح نفسه بقوة. لمن أُقيمت منظمة التحرير الفلسطينية؟! وما هو الغرض الذي جاءت من أجله؟ هذه معادلة كانت غاية بالإشكال والتعقيد لأن هناك من كان يعارضها من الدول العربية والحكومات.

وبالتالي عندما قررت حركة فتح أن تصبح عضواً ملتزماً فيها، كان ودون شك وللأسف شرائح فلسطينية أخرى تتبع ولاؤها للآخر من بعض الدول العربية الذي طرحه برنامجه على ساحتنا وشكل له فصيلاً يعبر عن معتقداته الحزبية أو القومية. فاستمرت فتح في تفاعلها مع مشروع م.ت.ف وتواصل هذا إلى أن أصبحت ممثلاً شرعياً ووحيداً لشعبنا الفلسطيني. لكن ذلك لم يحصل بهذه السهولة والبساطة. لقد اشتعلت حروب ودماء سالت في المنطقة لكسر هذا المشروع وإعادته إلى الوصاية والخضوع والتبعية. بل وإلى الحاضنة الرسمية. إلا أن الرياح لم تأتي كما اشتهت السفن.

 

الحلقة الرابعة 

قدر شعبنا وحركته فتح أن ينطلق نضاله في واقع عربي جذور التعددية في عمقه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ونحن جزء من هذا الوطن العربي الكبير، وهذه الأمة. ولا يمكن تجزئتهما فالنسيج واحد، والجذور واحدة، والتربة التي نزرعها واحدة، واللغة التي ننطق بها منذ نعومة أظافرنا واحدة، وربما شعورنا واحد من المحيط إلى الخليج.

مجتمعنا العربي سيد التعددية في مجتمعات هذا الكون وهي حقيقة مهما حاولت الدكتاتوريات طمسها ونظريات الطرح النظري حاولت دمجها في قوالب لغوية واجتماعية واقتصادية مختلفة.

نحن مجتمع نسيجه ومكوناته تاريخية منذ الأزل وإلى الأبد .. قبلية، وعشائرية، وطائفية، مجتمعات بدوية أو زراعية أو مدنية وحتى دينية  وطبقية، بتعددية ثقافية سياسية فكرية. فكل ما يعتقده الباحثون والكتاب، لدينا منه الكثير بلا حرج.

نتفق على أن مجتمعنا العربي لا تظهر فيه الظواهر والحركات صدفة أو من العدم. فإذا سلمنا جدلا بأن العوامل الذاتية والموضوعية حقيقة فلسفية علمية؛ فإن النتيجة واحدة. إلا أن المهم أن تكون العلاقة مبنية على الانسجام والتفاعل الأفقي والعمودي بينهما حتى يحدث التطور. فالتناقضات مصدر التطور، والمنافسة مصدر للتطوير. و هذا يعني نشوء صراع بين الأشياء  يأتي بالتطور الإجباري.. لأن التطور والتقدم لا يحتاج إلى تصريح أو إذن من أحد أو نظام أو حتى جماعة. ومن يؤمن بهذا القانون الجدلي يؤمن بأن الحركات لا تأتي إلى حيز الواقع دون سبب أو علة.

لذا فإن  حركات التحرر الوطني – هكذا سُميت-؛ انطلقت بسبب التحفيز الناشئ من ممارسات الظلم   والقمع والاضطهاد والعدوان من الاستعمار الأجنبي الذي احتل البلاد وسيطر على أهلها ومواطنيها عنوة وبقوة احتلالية عسكرية.

بالتالي، ليس مستهجنا بل  من الطبيعي في المجتمع والحياة أن تخرج الفئة أو المجموعة الوطنية إلى حيز الواقع وتعلن النضال ضد هذا الظلم وسببه.

فلسطين خضعت للاستعمار قديما وحديثا ولاحتلال  صهيوني إسرائيلي، وقد تقاطع المستعمرون  والمحتلون جميعا بفكرة استراتيجية استعمارية حول فلسطين ترتكز على ما تتمتع به  أرضها من خصائص جغرافية واستراتيجية ووجودية تتناسب   وأطماع الاستعمار الآتي من الغرب، والساعي للسيطرة  الدائمة على الوطن العربي وخيراته المادية والطبيعية، ومصادر الطاقة فيه.

إلا أن الخطر الحقيقي والنهائي الذي حل بالمنطقة جميعها هو الاحتلال الصهيوني الغازي لفلسطين والمنطقة العربية هادفا لبناء بنية اجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية وسياسية في إحلال مبرمج مكان بنية فلسطين الأصيلة  ثقافيا واجتماعيا و سياسيا في استهداف لكافة مورثات الوجود  للشعب الفلسطيني؛ بهدف إفناء بنيته  على أرضه، و تمكين  الاحتلال من الاستمرار وامتلاك الأرض، في صراع شامل لا يرتكز على  الحكم العسكري وفقط.

من هنا، ذكر المفكرون والمحللون الاستراتيجيون أن الصراع في فلسطين "وجودي"   طرفاه هما "نفي النفي" مهما كانت الظروف.

وقد حققت الصهيونية "العالمية" وأداتها إسرائيل بعد إنشاء الكيان  الاحتلال على أرضنا الكثير من مفهومها للصراع. حيث  أجبرت مئات الألوف من أبناء شعبنا النزوح من فلسطين  في لجوء المقهورين إلى  دول عربية مجاورة. وإمعانا في تلك التصفية الوجودية في بدايات الاحتلال؛  دمرت المئات من القرى والأحياء العربية لتقيم مكانها أحياءها وقراها ومستوطناتها التي استولت على الأرض الفلسطينية لإقامتها.

ثم فرض الاحتلال كما هائلا من الإجراءات والقوانين والسياسات التي تحرم على الفلسطيني البقاء في ظروف وبنية ثقافته التاريخية، لترسيخ "الترانسفير" – الهجرة-؛  رغبة في الوصول إلى حالة "الدولة اليهودية" المطلقة كما حلم بها ثيودور هيرتسيل في كتابه "الدولة اليهودية" التي وظف لأجلها كل المقدرات اليهودية والقرارات والتوصيات والجهود لتحقيق مؤتمر بازل في سويسرا  "1897م".

إن الحرب الوجودية في فلسطين "صراع عميق" تاريخي أممي، تتركز فيه معادلات كونية وتقاطعات مصالح تدفعه  للأجل الطويل الممتد، وهذا ما أدركته حركة فتح وبنت ثقافتها النضالية و الكفاحية على مفهومها  لمضمون الصراع وأبعاده حفظا لتلك البنية الثقافية والتاريخية للشعب الفلسطيني من أجل الأجيال المتعاقبة.  وبكل بساطة اختصرت تفسيرها للصراع بأنه وطني قومي يحتاج للعمق العربي طالما يطال الثقافة العربية التي تمتد من رحمها فلسطين التي تمثل رأس الحربة في الصراع.

وعليه؛ رفعت فتح شعارها منذ بداياتها الثورية  " البنادق كل البنادق صوب العدو المركزي"؛ لا لأنها أرادت وحدة أرض المعركة  وفقط؛ بل لتحقق الوحدة  الوطنية  المستديمة ضمانة لوحدة الجبهة الفلسطينية الداخلية عبر مراحل الصراع مع هكذا عدو متفوق متمكن.

الشعب الفلسطيني في واقع ما بعد النكبة  تعرض للشتات والتشرد، واحتاج لمن يقود وحدته الاجتماعية والثقافية والنضالية حفظا لتلك الهوية المستهدفة من الاحتلال كي يواصل معاركه في ميزان قوى ليس في صالحه أبدا، وقد حملت فتح تلك المهمة الرئيسية في عملها  على تغيير ميزان القوى لصالح نضالات شعبها وأهدافه وحقوقه. فبالوحدة الوطنية وتأجيج الصراع  مع العدو المركزي؛ يمكن أن تُفجر الطاقات الوطنية والعربية في كافة المراحل ويكفل ذلك إثارة  القلق بل الرعب  لدى العدو الذي سعى دوما لتدمير  شعبنا داخليا ونضاليا لقتل  روح التمرد والثورة والنضال لدى أبنائه، وأن يبقى  خاضعا في قفص الوصاية والاندماج في المجتمعات الأخرى، وبهذا يضمن المشروع الصهيوني استمراره ووجوده  متمثلا في دولة إسرائيل وسيطرتها على ميزان القوة في المنطقة.

لقد كانت و ما زالت مشاريع الثورة والمقاومة محظورة في المنطقة وفي أفضل أحوالها محاطة بالحذر و الرقابة و التضييق؛ لما تحمله من خطورة  قد تنقلها موازين القوى ممثلة بالاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة وحلفائها  للمنطقة بأسرها، لذا كان على حركة فتح أن تخوض نضالها بفكر براغماتي  يحفظ رؤيتها للصراع ولغة المراحل و متطلباتها مع  استمرار المتابعة والقراءة النضالية لمجريات الأمور و تطوراتها.

أمام  كل تلك الحيثيات تمسكت حركة فتح بمشروع منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني وضامنا لاستقلالية القرار ووحدة القوى الوطنية.

بهذا أعادت "فتح" مركزية الكيان السياسي والوطني والمعنوي للشعب الفلسطيني،  وعززت حضوره في المحافل الدولية في زخم مستمر يُرسخ مفهوما عالميا بأن  الفلسطينيين شعب له هوية و طُرد عنوة من أرضه التي له  حقوقه فيها، وضمنت  مواجهة التحديات العظام التي تحيط بالشعب الفلسطيني ومستقبله في المضي في طريق الحركة واستعادة أرضه ووجوده "المستقل" عليها .. ذلك الطريق الذي لم يكن سهلا  ممهدا؛ بل كان وما زال وعرا محفوفا  بالمخاطر والعواصف.

 

الحلقة الخامسة 

حينما كان الهم الأكبر أن تُصبح منظمة التحرير الفلسطينية وعاءاً وإطاراً يضم الكل الفلسطيني، إذا ما نجحت فتح في بدايات تأسيسها وأن تكون للجميع الوطني، لكن ليس إطاراً خاضعاً مكبلاً بإثنا وعشرين سلسلة عربية، تعيد شعبنا إلى الخضوع والوصاية.

وكما هو معروف فإن الواقع العربي تاريخياً لم يكن مثالياً بالنوايا والدوافع أو نظيفاً بالسياسات والأهداف والمصالح، وربما أكثر من هذا، فكان يحكمه نظم سياسية ملتزمة بالنفوذ الأجنبي ومرتبطة به. فأي نضال وأي سياسة فلسطينية يمكنها أن تشق الطريق في الصخر.

إلا أن فتح رأت أن الوحدة الوطنية أساس نضالي إستراتيجي، تسعى وراءه لتحقيق التلاحم والتماسك وتعزيز قوى أرض المعركة وتحصين الذات.

وكان وجود فتح في منظمة التحرير الفلسطينية الضمانة الأكثر صلابة للذهاب بها إلى تحقيق الوحدة، وديمومة الكفاح، واستقلالية القرار، وهذا ما كان بحاجته الشعب الفلسطيني حتى يتم تحقيق مركزيته وصلابته السياسية والنضالية.

إن وحدة وطنية، ومنظمة تحرير فلسطينية دون ولاء لشعبها ووطنها؛ لا يمكن أن تحظى بالثقة والاحترام والتواصل، فالوحدة الوطنية هي وحدة الكيان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للشعب. وبالتالي هذا ما رأته حركة فتح في منظمة التحرير، وأرادته أن يتجسد على الأرض- هنا لا بد من الانتباه إلى أن وحدة أدوات المعركة جزء من الوحدة الوطنية وليس كلها-.

وقد أنجز الكثير من هذا المفهوم على ساحة النضال الوطني في مراحل كثيرة سابقة بالرغم من العقبات، والذاتية الحزبية، والأطر التي جاءت انعكاساً لمصالح بعض الأنظمة العربية. بما انجز البرنامج السياسي، والهدف الوطني، والوسيلة هي الكفاح المسلح وكل أشكال النضال، طريقاً لتحرير فلسطين ووحدة الإطار. وبقيت بعض الخلافات تفعل فعلها حسب كل مرحلة وتناقضاتها في العلاقة مع النظم العربية والأجنبية، والتكتيكات التي اجتهد حولها البعض. وربما كانت سبباً لانفعالاتهم وسلوكهم وتحالفاتهم مع الغير على حساب الأساسي في مراحل سابقة، -السبعينات من القرن الفائت والثمانينات أيضاً التي شهدت تناقضات ثانوية كثيرة-.

إن ما دفعت فتح ثمنه للانضمام وربما الاندماج في إطار منظمة التحرير كان باهظاً، فتنازلت عن الكثير مقابل نجاح مهمتها - أي مهمة المنظمة-، ودفعت قياداتها وكوادرها ومقاتليها الإنضمام في أطرها والإرتباط بها، وفي محصلة الأمر كان الطريق إلى منظمة التحرير وبها صعباً، لكنه حقق الكثير لصالح شعبنا، طالما أن الفصائل والحركات والمنظمات وسائل وأدوات للعمل الفلسطيني.

يعتبر انضمام حركة فتح لمنظمة التحرير البداية الحقيقية لها – أي المنظمة -، وتلاها انخراط باقي الفصائل، حيث أصبحت قيادتها من قوى المعركة، لا أشخاصاً موظفين.

ويمكن القول، أن برنامجاً سياسياً وتنظيمياً ووطنياً أخذ يظهر في الأفق، ربما كان يوافق الواقع العربي وبعض متطلبات النضال الفلسطيني، إلا أنه - أي هذا البرنامج - كان ممكناً، ويمكنه أن يجمع الكل الفلسطيني على أرض (م.ت.ف) بالحد الأدنى. لكن للأسف وقع الممنوع والمحظور ببين مرحلة وأخرى، وضرب الفلسطيني بالفلسطيني بدعوى أسباب سياسية وغالباً فئوية.

إلا أن فتح استمرت متمسكة بالمنظمة هوية وكياناً سياسياً لشعبنا، لأنه وبكل موضوعية؛ كانت تدرك أن التناقض الفلسطيني وتناقض ثانوي، ولا يمكن أن يتحول إلى رئيسي.

وبالرغم من اليقظة والحذر من ممارسات قد تجر قوى الساحة إلى معارك جانبية تهدد مصير العمل الفلسطيني، إلا أن وقوع المحظور على الساحة كان عاملاً في زج الثورة – كل الثورة – لحروب جانبية مدمرة كان أعنفها على الاطلاق الحروب الأهلية في الأردن ولبنان.- الساحتان القاعدتان الجغرافيتان اللتان شكلتا منطلق العمل الفدائي نحو الوطن المحتل-، فكانتا الرئتان اللتان تتنفس عبرهما الثورة.

حقق هؤلاء المتهورون والمرتبطون بالقوى الإقليمية نصيبهم من اللعبة، لعبة ضرب المنظمة في عمقها السياسي والوطني، وجعلها تفقد مصداقيتها أمام جماهير شعبنا وأمتنا العربية، وأصدقائنا في العالم. هذه الظاهرة مازالت بالرغم من التقدم والتمسك بالمنظمة متواصلة على ساحة العمل، بل وأخذت أشكالاً متنوعة، لكنها الأخطر في تاريخ نضال الحركة الفلسطينية برمتها، والذي مازال يتكرر حتى يومنا هذا.

هذه الطريقة المجدية التي وجدها الخصوم والأعداء للنيل من وحدة النضال الوطني والتركيز على العدو المركزي وعدم الدخول في معارك جانبية- ثانوية، وللأسف كانت الرياح تسير بما اشتهت السفن؛ فضاع الكثير من الجهود والتضحيات جراء هذه الظاهرة التي تغذيها (نظرية المؤامرة)، النظرية الأكثر استخداماً على الساحة الفلسطينية، والتي سببت في الماضي اللجوء إلى دول هنا وهناك وتشتتاً في القوة، وبعثرةٌ للوجود على ساحات خط التماس الأول (دول الطوق)، وجعلت القيادة في إفريقيا والثورة في آسيا!!

يمكن القول أن الثورة الفلسطينية مرت في ثلاثة مراحل كبيرة سخر الأعداء وحلفائهم في المنطقة جهوداً وإمكانات لا حدود لها كي تدخلها الثورة:

- ضرب الثورة ووجودها المسلح.

-  محاصرة الثورة وعزل قياداتها.

-  إحتواء الثورة وإجبار قيادتها القبول بتسوية سياسية ما للصراع.

لماذا لا نتأمل ما يجري اليوم وما سيجري غداً من تطورات وأحداث تتشابه مع بعضها كما في الماضي؟

إن حركة فتح التي قدمت الكثير من الشهداء القادة والمناضلين والكوادر، والأسرى والجرحى، وكذا كل الإخوة والرفاق في درب الثورة، فلسطينيين وعرب وأصدقاء، أدركت أن شعار مقاتليها في الكفاح الوطني إما الشهادة، أو النصر. أي الفدائي كان ومازال يحمل روحه على كفه، ويدرك أن مصيره مرتبط بالقضية والكفاح لنصرتها وانتصارها، ولا يمكن أن ننسى هذا المحتوم عبر كل الأجيال، وفي كل الوطن وأماكن اللجوء والمنافي.

فالثورة الفلسطينية كانت تبدو (ثورة المستحيل) أمام هذا الواقع المعقد؛ والذي تكثر فيه المعادلات الداخلية والخارجية، وتتشابك فيه مصالح الدول والجماعات والكبار والصغار، وربما –أيضاً- الأفراد. ولن ينتهي هذا من الواقع حتى تأتي تطورات كبيرة تحمل انتصاراً هاماً، وتعيد الوقائع إلى حيز التوازن والمنطق ووقف الاعتداء على التاريخ.