بعد يوم من هجوم القوة التابعة لما يُسمى "برنامج المقاومة" على ديوان آل القصاص في خان يونس (وبالمناسبة والمصادفة، حدث ذلك بعد 24 ساعة من قراءة فاتحة الكتاب لخطبة ابني شعبان لفتاة من العائلة شقيقة أحد الشهداء الأبطال) أحسب أننا مضطرون للعودة الى ما كتبناه في تفسير كل ممارسات الطابور المشبوه المتلطي بالدين وبمقاومة الاحتلال، في بدايات انقلابهم الدامي، الغريب على طبائع الشعب الفلسطيني وعلى مألوف حياته. أيامها قلنا، إن على "حماس" أن تعلم وأن لا تأخذها شهوة السلطة، الى الاستعانة بالعصا الغليظة ودون تدقيق فيمن "يعوم" معها، لأنها في النهاية ستخسر. فاستناداً لمعرفتنا لأصول ومنابت بعض الغُلاة الذين انضموا لـ "حماس" وأطلقوا لحاهم، وهي أصول ومنابت حاقدة على الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى المناضلين، ولا تطيق سماع شيء من التاريخ الفلسطيني، لسبب يتعلق بالعار الوطني، الذي لحق إما بآبائهم أو أمهاتهم أو أشقائهم، الذين تخابروا مع الاحتلال. فهؤلاء، لم يجدوا أبرع ولا أنسب لهم، من محاولة الهروب الى الأمام، والمزاودة على من أمضوا حياتهم في مواقع النضال. فلم يكن هناك سوى هذا التعليل، لتفسير ظاهرة الحماسة للقتل وللضرب ولإطلاق النار من النقطة صفر على مفاصل الأيدي والأقدام، واستهداف الخيّرين من أبناء الشهداء ومحاولات إلحاق الإهانة بهم وانتهاك كرامتهم، بغير سبب، والتعدي على الأسر بألفاظ بذيئة وتعنيفها، عند دهم البيوت لاعتقال مطلوبين لهم.

الشهداء الأبطال الثلاثة الذين أحيا الفتحاويون ذكرى رحيلهم، هم اللواء أحمد مفرج (أبو حميد) ورياض القصاص وعارف حرز الله. الأخيران تعرفت عليهما رحمهما الله، أما الأول فقد كان صديقاً عزيزاً أحترمه كأب أو أخ كبير. فقد عشت معه في جنوبي الأردن، ومنذ تلك الأيام في أواخر الستينيات حتي اليوم الذي فتحت فيه ثلاجة الموتى في مشفى ناصر بخان يونس لكي أتأكد بأننا فقدناه ثم قرأت الفاتحة ثواباً لروحه؛ ظللنا على اتصال وعلى وداد. إن ما أحرق قلوبنا في يوم استشهاد "أبو حميد" أن ضباط الاحتلال كانوا في الجلسات الثلاث الأخيرة مع ضباطنا في إطار هيئة التنسيق العسكري الإجرائي، يؤكدون أن قائد الأمن الوطني الفلسطيني أحمد مفرج، يفتح مخازن الذخيرة للمقاومين ويزودهم بالسلاح ويرشدهم. ولما وضعوه في رؤوسهم، وهم يعرفون موقفه وطباعه التي من بينها أنه لا ينزع عن جسده الزي العسكري وينام فيه وأنه كلما سمع صوت الرصاص يكون جاهزاً ويقفز من مجلسه أو من سريره، وينطلق الى مكان الرمي ليعاين الموقف بنفسه. وبناء على معرفتهم بطباعه، توغلوا في منطقة القرى الحدودية، وانتظروه. كانوا يعرفون إنه سيأتي، وإنه يعاني من مرض السكر، وأن مجرد إصابته وتركه ينزف لدقائق، كفيلة بموته. أصابوه عندما وصل، وكثفوا نيرانهم في اتجاه كل من حاول انقاذه، فسقط نحو عشرين شهيداً، كان هو من بينهم!

اللواء "أبو حميد" المقاوم، الذي عرفته كقدوة في الميدان، برتبة ملازم، منذ أن كنت في سن صغيرة، وكنا نمازحه لاندفاعه وسرعة حركته وكلامه، عاش ومات رجلاً فقيراً، حدثني في أيامه الأخيرة عن وطأة القرض المالي الذي اضطر اليه لكي يبتني منزلاً يأوي اليه في خاتمة عمره. قلت ذلك للمحتشدين في يوم تأبينه ألقيت كلمة أصدقاء الشهيد. أما الشهيدان القصاص وحرز الله، فكانا مثالاً في التفاني على طريق المقاومة. فلماذا يحس أمن "حماس" بالعيظ من إحياء ذكرى استشهاد الأبطال الثلاثة؟

لا يمكن لإنسان، أن يفهم معنى المقاومة ويؤمن بها، إلا عندما يحس بشعبه ويحترم كرامته وتاريخ مناضليه ويخفق قلبه بالحب والغيرة وحرصاً على مصير الأسرة والإبن والأخ، لا أن يستسهل التنكيل بالناس وإطلاق النار من النقطة صفر على المفاصل، لإلحاق العاهات الدائمة بأبناء شعبه، ويضرب البيوت بالصواريخ المضادة للدروع، مثلما حدث أثناء الانقلاب، ويهاجم مناسبات إحياء ذكرى الشهداء!

هؤلاء، بفعلتهم المخزية واللا وطنية واللا إسلامية في ديوان آل القصاص؛ يثبتون مرة أخرى، أن مشروعهم الحقيقي هو مقاومة المقاومة. صحيح إنهم أثبتوا ذلك، بقمع المقاومين والتزام التهدئة بلا ثمن، لكن الممارسات اليومية تدل على أنهم شديدو الغيظ من تاريخ المناضلين ومن أسمائهم ومن أمنياتهم. أما التغني بما يسمونه "برنامج المقاومة" فإنه لزوم الجباية والتشبث بالسلطة في الجزء المتاح لهم. فالحديث عن مقاومة تختبر الوقائع جداوها، هو غير الحديث عن "برنامج المقاومة" الذي لا نعرف له تفصيلاً ولا معنى. ولو كانت المسألة مسألة بذخ في الكلام، وارتضينا لأنفسنا الإسراف مثلهم في الثرثرة الكاذبة، لتحدثنا عن برنامجين واحد للمقاومة في فلسطين، وآخر لتحرير الأندلس. ألم يتحدث واحد من الإسلامويين عبر شاشة "الجزيرة" قبل أيام عن "فتح روما"؟!

المشبوهون الموتورون التافهون، الذين استقووا على الناس بالسلاح، في مناسبة إحياء ذكرى ارتقاء ثلاثة شهدا أبطال، ذاهبون الى مآلاتهم عاجلاً أم آجلاً، وسيروي بعضهم حكايات ومواويل البعض الآخر، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون!