تعاني الحالة الفلسطينية من حالة ترقب وانتظار، يتراءى فيها للمنتظِر وكأن القادم المجهول يدغدغ آماله وأحلامه وتمنياته هذا إن امتلك قاعدة للتفكير الايجابي والعكس بالعكس مع أصحاب التوجس والتفكير السلبي، فيلقون جميعا -أي أصحاب العقليتين من المنتظِرين - بأعباء اليوم النفسية على الأفضل/الأسوأ القادم وهو المتوقع أو المحلوم به فلسطينيا أو عربيا، أو حتى شخصيا.
إن حالة الترقب والانتظار الممزوجة بالحلم قد تكون حالة صحيّة، وتكون أداة تستخدمها السلطة أي سلطة (من سلطة العقل أو الحلم أوالشخص بوعيه أو عاطفته إلى سلطة الحاكم...) لإحكام السيطرة على التوجهات ومحاولة تخدير النفس/الناس، واشغالهم عن واقعهم البائس بآمال وصول قافلة الأمل.
لا تمثل هذه الحالة الفكرية والنفسية شذوذا عن أحوال غيرها في المحيط العربي والإقليمي، أو لدى كثير من أصحاب الديانات والمذاهب التي تحلم (بالمخلِّص) القادم من فوق سبع سماوات لينشر العدل والازدهار، فيسود الحالمون من أتباع القادم ويقضون على المخالفين، وكأن رسالة الأديان هي الدمار والقتل حتى في حالة الانتظار، لا رسالة المحبة والتسامح والتعارف (شعوبا وقبائل لتعارفوا).
لا نستطرد كثيرا في سياق الحالة الترقبية الانتظارية، ولكنها في الحالة الفلسطينية واضحة وجلية، وما يتبعها من قلق وتوتر وتوجس وتشكك، وبما يخالف المتوقع أو بما لا يتفق مع المأمول.
إن اهتزاز الشارع الجماهيري السياسي العربي نتيجة "الربيع الذي تحول إلى شتاء"، ونمو الصراع المذهبي بل وداخل كل مذهب، وفي استفحال الحالة الاقتصادية السيئة فلا عدالة ولا عيش ولا أمن حسب المأمول، والكرامة تهدر والتطرف في ازدياد، وإغراق الكثيرين في التعصب الفكراني للرأي أو العقيدة أوالفكرة في سياق الطرد من الجنة أو العزف بشكل منفرد ينتقل للحالة الفلسطينية في التعصب للفكرة أوللتنظيم أو للتوجّه، أو حتى لرأي دون السعي لمد جسور التفاهم والتقارب مع القاعدة الصادقة التي تقول: ان من يختلف معي ليس عدوي.
إن شخّصنا حالة الترقب والانتظار هذه فإنها قد تفضي لكارثة، وإن أحسن استخدامها قد تنعش المجتمع (او الفرد مع ذاته) حيث ترتبط برأينا بعوامل خمسة هي:
1. اهتزاز الإرادة، واحتكار السطور: فالكثير من السياسيين وقادة الرأي بشكل رئيس كلّ يفتح كتابه الخاص ولا يقرأ سطور غيره، وكلٌّ يحرث في حقله ولا ينظر لغيره، وكل منهم يملي على الآخر ما يفعل ولا يتقبل المشورة أو النصح ما أدى لفقدان هؤلاء (ارادة) الاعتراف بالآخر فعليا وعقليا، التي تعني ضرورة اقراره على اختلافه والحوار معه، واقراره على اختلافه والتعايش معه. وفي هذه النقطة تحديدا تتقاطع المصالح الآنية على حساب الأهداف الكبرى لنرى الانقلاب في غزة عام 2007 يفرخ انقساما في الوطن يتقبل انعاسكات الإقليم المضطرب أو يوظفها بحنكة لإدارة الانقسام حفاظا على الكرسي والمقاعد والامتيازات، وبافتراض أنه هو شخصيا (الشخص أو التنظيم أو الجهة..) من يمثل الوطن أو الاسلام أو المصلحة لا غير.
2. توترات المفاهيم وثقافة الكذب: ولنطرق مفهوم التعددية كمثال واحد، فلا يكاد السياسي الفلسطيني في كثير من تصريحات مختلف الأطراف يتعامل مع هذه " التعددية"، ومع العشرات غيرها من المفاهيم إلا على قاعدة كم أكسب من رفع الشعار؟ وأين حدود مصلحتي في ذلك ؟ وبمقدار ما تكون المعارضة "مسيطر عليها " أو " لطيفة " أو " مدجنة" أو "مأمورة" يكون تقبّلها واردا، والتصريح أننا مع الديمقراطية والرأي والرأي الآخر والتعددية ما هو الا كذب على الذات في ثقافة بدأت تحل محل ثقافة محمد عليه الصلاة والسلام وهي ثقافة الصدق.
3. صعوبات في الفهم والتأمل: رغم انتشار كافة وسائل الاتصال الحديثة التي قربت المسافات، وضيّقت حزام البحث ووسعت الآفاق وزادت من قدرة التنقيب وجعلت العقول تطل على حدائق وجنات بل ومزابل لم يطل عليها من قبل ما يستدعي الانفتاح والتفكر والتأمل والاحترام للآخر الا أن (الجديد) يتصادم مع (القديم) المستقر، فبدلا من أن يتلاقح معه في آلية فكرية تتيح مجال الاستفادة تنشأ عقد فهم طريقة استخدام العقل أو اتباع مناهج التفكير العلمي، اذ يظل العديد أسرى المستقِر القديم على امتلائه بالروث دون بارقة أمل بإزالته أو التخلص من روائحه.
4. المصلحيّة والشيطان: كل تنظيم سياسي (أو اجتماعي...) فلسطيني لا يمل من ترداد أن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، كما لا يمل الفكرانيون (الاسلامويون والعلمانويون) من القول ان مصلحة الاسلام أومصلحة الإنسان هي الأساس، وكأن للإسلام أو الانسان أو الوطن ممثلين محددين دون غيرهم يُعرفون بشخوصهم أو فصائلهم، فتتحوصل (القداسة) و(الحكمة) و(المهابة) بهم حصريا لتختلط في حقيقة الأمر المصلحة العامة مع النوازع الشيطانية في النفس الامارة بالسوء. ونفتقد سماحة المسيح عليه السلام (أحبوا مبغضيكم)، ورحمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفضائل من سبقونا (الأعلام منهم) الذين لم يكونوا قديسين بقدر ما انهم استطاعوا أن يغلّبوا نوازع الخير على الشر في نفوسهم دون أن يفرضوا ذلك على غيرهم فنشأت القدوة والنموذج و(خُلُقه القرآن).
إن استثمار حالة الانتظار والترقب واجب لأنها حالة تحمل في بطنها قيمة يتم عبرها إعلاء منطق الصبر والمحبة والتأمل والثبات والصمود والفهم وبناء الذات والرجاء والعمل والوحدة والتعددية والانفتاح، بدلا من أن تصبح سلاحا يتم استخدامه لنحر الذات والقضية عبر التشكيك والتكذيب والتلفيق وبث روح التيئيس والافتراق والموت.
إن فهمنا لذاتنا وسعينا لإصلاح أنفسنا بقاعدة (من اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها) أو (ابدأ بنفسك) لتمثل المدخل الحقيقي للخروج من حالة الترقب والانتظار في كل شأن إلى فضاء العمل والأمل، فنحن في حقيقة الأمر مخلّص أنفسنا ومنطقة الحرث الحقيقية.