أخيرا ترجل ابو عرب عن صهوة الحداء والغناء، بل ترجل عن صهوة التاريخ الفلسطيني الحديث، وعن مرحلة عاصرت النكبة والنكسة والمد الثوري والانتفاضة، ومرحلة اللجوء والمخيمات والصمود في وجه العواصف والأنواء التي استهدفت الهوية الفلسطينية بالمسح والنسيان والشطب.
ابو عرب شاعر فلسطين وحدّاؤها، ابن قرية الشجرة ومواليدها عام 1931، ما يعني انه عاصر النكبة وعايشها، وشاهد كيف تم اقتلاع الشجرة من جذورها. لكن الايام دارت وعاد ابو عرب ابن الشجرة الى فلسطين في زيارة قصيرة ليشارك في عيد انطلاقة الثورة، واستطاع ان يتسلل خفية الى الشجرة ليرى بأم عينيه ركاما كان يوما ما بيت ابو عرب ومسقط رأسه. كاد ابو عرب يقضي هناك في زيارته القصيرة، لكن القدر أمهله ليسقط بعدها مريضا وبقي يصارع المرض من مخيم حمص، الى الامارات العربية، ثم عودة الى حمص حيث كانت نهاية مشوار ابو عرب الاحد الموافق الثاني من شهر مارس للعام الرابع عشر بعد الالفية الثانية من سفر الوطن.
انتهزت فرصة ذهاب ابو عرب الى جنين، فرافقته في السيارة وقمت بتسجيل خمسين دقيقة، استعرض فيها ابو عرب طفولته وقرابته وصداقته مع الشهيد الراحل ناجي العلي اكبر رسام كاريكاتوير في القرن العشرين ان لم يكن في العصر الحديث كله.
حدثني ابو عرب عن طفولته واحداث النكبة واللجوء الى عدة اماكن حتى استقر به المقام في مخيم حمص، وليبدأ مشواره الطويل مع الحداء والشعر والميجانا والعتابا يبث عبرها اشواقه الملتهبة الى الوطن.
ودارت الايام فأصبح ابو عرب منشد الثورة ومؤرخ احداثها بالعتابا والزجل حتى اصبح اسمه على كل لسان. يسجل له انه لم يمدح احدا على قيد الحياة، ولم يذكر ضمن كل اغانيه وزجله اي مسؤول، بل رسخ كل ما كتب الى فلسطين الوطن والثورة والشهداء.
عندما قمنا بزيارة اليامون، تم الاحتفاء بقدوم ابو عرب في نادي اليامون اين غنى بكثافة وأتحف الحضور خاصة عندما صدح بأغنية «يا يما في دقة عابابنا» وكانت مهداة للشهيد بلال الاوسط ابن قرية اليامون.
وقد روى لي ابو عرب قصة هذه الاغنية، عندما عرج الشهيد بلال على بيته اثناء تنفيذه عملية في الداخل ودق على الباب في ساعة متأخرة من الليل، فقالت شقيقته بقلق: «يا يما في دقة عابابنا» فما كان من الوالدة الا ان استجابت فورا لنداء القلب (قلب الام) فقالت فورا: «هذه دقة بلال» وفعلا كان بلال على الباب، والوالدة تقابله مباشرة بعد غياب عدة سنوات. لم يكن ابو عرب يعرف ان هذه الحادثة بطلها الشهيد بلال ابن اليامون، ووالدته الفلسطينية التي تحمل قلبا فلسطينيا مرهفا مزودا ببوصلة تشير الى الابناء اينما كانوا. ابو عرب، هذه السنديانة الفلسطينية العتيقة التي وقفت على الحد الفاصل بين الضفة وفلسطين التاريخية عند احدى قرى جنين واشار احدهم الى فلسطين الوطن التاريخي. هناك لم استطع التماسك عندما بدأ ابو عرب يغني وهو يشير بيده الى ذلك الاتجاه. لم يكن ابو عرب يغني، كان يذيب جسده في المقاطع والكلمات بينما الدموع تنهمر على وجنتيه، حتى اني خشيت عليه من السقوط ارضا. كان جسده يرتجف كورقة ساقطة في الخريف، وكان يود التحليق ليسقط ربما ثمرة ابو بذرة في حقول الشجرة.
ندمت على مرافقته في تلك الرحلة. انا الذي لا يذكر من فلسطين الوطن والذاكرة شيئا. انا ابن النكبة وعندما زرت بيتنا في طيرة - حيفا لم استطع ان اتمالك نفسي: فكيف بمن يعرف تضاريس الوهاد والجبال، كيف بمن يذكر بيادر القمح والطوابين. كيف بمن ذاق خبز والدته في الفجر يقطر زيتا وعسلا قبل انصرافه الى الحقول، كيف بمن عاش كل هذه السنين في الغربة، ثم وبضربة حظ واحدة يجد نفسه امام كل هذه الذكريات، كيف بأبي عرب ان يصمد امام هذا الكم من الاحاسيس والعواطف الجياشة.. بل كيف لابي عرب ألا ينشد ويغني وهو على فراش الموت؟