من لا يقرأ ويعرف التاريخ الفلسطيني عمومًا والغزي خصوصًا في حقبه المتوالية، يجهل الحكمة في التعامل مع أبناء شعبنا، ويفتقد إلى القدرة على إدارة الصراع مع سكانها الأصليين العرب الأقحاح، الذين تمكنوا من هزيمة وسحق الغزاة جميعًا بمختلف مللهم ونحلهم وجنسياتهم، ونحتت غزة العظيمة شعارها المتمثل بطائر الفينيق، الذي ينهض من تحت الرماد كالعنقاء من تجاربها التاريخية، لتؤكد قدرتها على النهوض من تحت الدمار والكوارث التي ألمت بها وبسكانها، وتقف مجددًا على أقدامها نافضة غبار الموت والإبادة والنكبات على مر الحقب، وبحكم قربها من القدس الفلسطينية العربية، التي هوجمت 52 مرة في تاريخها الطويل، واحتلت وأعيد احتلالها 44 مرة، وحوصرت 23 مرة، ودمرت مرتين، واستوطنها البشر منذ الألفية الرابعة قبل الحقبة العامة، وكانت غزة توأمها وأحدى أهم خمس مدن فلسطينية عبر التاريخ.
كان من الضروري التذكير بالتاريخ ليعرف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أن قطاع غزة جزءً لا يتجزأ من فلسطين التاريخية، ولصيق الصلة بحقب التاريخ الفلسطيني، وهزم كل الغزاة الذين مروا بها، أسوة بالقدس والمدن الفلسطينية، وعلى أرض غزة وخاصة على تراب قرية هربيا (الواقعة بين غزة وعسقلان، وهي محتلة في نكبة عام 1948) هزم الصليبيون الهزيمة النهائية والحاسمة.
ومن يفكر باحتلال غزة، لن يكون مصيره أفضل حالاً من هزيمة الصليبيين الأوائل، إذاً قطاع غزة كما كان طيلة حقب التاريخ سداً منيعًا ومقبرة للغزاة الأعداء، بغض النظر عن قوتهم وجبروتهم ووجشيتهم، كما أكدت تجربة الإبادة الجماعية الصهيو أميركية الحالية، المستمرة منذ 16 شهرًا خلت، وبالتالي وردًا على ما ورد في المؤتمر الصحفي الذي عقد بين دونالد ترمب وبنيامين نتنياهو فجر أمس الثلاثاء 5 شباط/فبراير الحالي، وإعلانه عن تهجير الفلسطينيين القسري من القطاع، ليحوله إلى مستعمرة أو قاعدة أميركية إلى المنافي في عملية تطهير عرقي جديدة تضاهي نكبة الشعب الفلسطيني الكبرى عام 1948، وبناء "ريفيرا" على سواحلها، لينهب ثرواتها من النفط والغاز والاستثمار السياجي فيها، الفكرة التي كان طرحها صهره، جاريد كوشنير، وكبير مستشاريه في ولايته الأولى في جامعة هارفارد في 15 شباط/فبراير 2024، ونشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" في 19 آذار/مارس العام الماضي، وجاء فيها "ممتلكات الواجهة البحرية في غزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة". وأضاف في حديث أمام هيئة التدريس: "إن على إسرائيل أن تبذل قصارى جهدها لنقل الناس من المنطقة و"تنظيف" القطاع". ورفض كوشنير فكرة وجود دولة فلسطينية، واعتبرها فكرة سيئة و"جائزة للأرهاب". وهو ما تبناه الرئيس العقاري، الذي يفترض أن القطاع ملكية خاصة، وكان مؤجرها للفلسطينيين، وعليهم أن يغادروا وفق إملاءاته لتحقيق صفقته التجارية الخائبة، وأحد عناوين إشعال الحروب والإبادة مجددًا في فلسطين والوطن العربي والإقليمي عمومًا.
ومما ذكره ساكن البيت الأبيض، الذي لا يفقه في تاريخ الشعوب والأمم شيئًا "الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على قطاع غزة، ونتوقع أن تكون لنا ملكية طويلة الأمد هناك". متجاهلاً أن قطاع غزة ليس للبيع، ولا للإيجار، ولا يخضع للمساومة، لأنه جزء أصيل من دولة فلسطين وفق التاريخ وقرارات الشرعية الدولية، وهو عنوان للانتماء والهوية الوطنية، ولن يكون يومًا تحت السيطرة الأميركية أو الإسرائيلية. لأنهم كما دفعوا ثمنًا باهظًا وكبيرًا من الخسائر من جنودهم ودمار أسلحتهم ودباباتهم، رغم الإبادة والدمار الذي أصاب القطاع وأبنائه الأبطال من الأطفال والنساء والضحايا الأبرياء والعزل بمئات الآلاف من الشهداء والجرحى، وتدمير نحو 90% من الوحدات السكنية، سيدفعون أثمانًا أكبر بكثير مما دفعوه على مدار الـ480 يومًا من حرب الأرض المحروقة.
ومن المؤكد أن دونالد ترمب زائل وقريبًا عن كرسي الحكم، وقبل نهاية ولايته الجديدة، ولن يحصل على جائزة نوبل، إنما سيكون مصيره على قارعة الطريق، ولا أريد أن استخدم الجملة المعروفة للجميع من أمثاله، الذين زبلهم التاريخ سابقًا، والشعب الفلسطيني باقٍ في أرض وطنه الأم عمومًا وقطاع غزة خصوصًا، ولن يسمحوا لكائن من كان تهجيرهم من بيوتهم وأماكن سكنهم ووطنهم الأم فلسطين، مهما دفعوا من تضحيات جسام.
وباختصار قبل أن أختم، أمثال ترمب لا تنفع معهم اللغة الديبلوماسية، ولا يجوز لمنطق الصفقات العقارية أن يحتل موقعًا في المساومة على التراب الوطني، وكما يعلم الجميع، فإن القوة الأميركية ومعها الغرب الرأسمالي ولقيطتهم إسرائيل لم يفلحوا في كسر إرادة الشعب الفلسطيني، ولم ينجحوا في فرض التهجير القسري، وفشلت أهدافهم في فلسطين، ولن يفلح الرئيس الـ47 في تحقيق فكرة صهره، وكما أفلس سلفه في تحقيق أي من أهدافه، سيفشل ويُهزم ترمب المتغطرس والمسكون بجنون الأنا العنصرية البيضاء الغربية "الأفنجليكانية" المريضة بالأساطير والخزعبلات اللاهوتية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها