من يقرأ تفاصيل الواقع الاقتصادي الذي بات عليه قطاع غزة نتيجة حرب الإبادة الإسرائيلية، التفاصيل التي نُشرت بالأمس، في تقرير مطول، سيصاب بأقسى أنواع الصدمات. واقع لا يُشير لغير نكبة اقتصادية غير مسبوقة، ولهولها تبدو أنها عصية على أي تسوية، حتى بعيدة المدى، فآثارها عميقة جدًا، وأوزارها بالغة الثقل والتعقيد. انكماش اقتصاد غزة هو اليوم بنسبة 82%، وحسب تقارير وكالات متخصصة، فإن إعادة الإعمار -على فرض أنها ستبدأ اليوم- ستحتاج إلى أكثر من عشر سنوات، بعد خمس سنوات من عملية إزالة الأنقاض. وستكلف أكثر من 80 مليار دولار، إلى جانب 700 مليون دولار لإزالة 42 مليون طن من الأنقاض، من مختلف أنحاء القطاع، وهذه هي أنقاض البيوت والمباني على اختلاف مسمياتها، التي خلفتها الغارات الحربية الإسرائيلية.
وحسب كبير الاقتصاديين في مؤسسة "راند" البحثية الأميركية "دانييل إيجل" وكما نقل التقرير "فإنه يمكنك إعادة بناء مبنى، ولكن كيف يمكنك إعادة بناء حياة مليون طفل؟" والحقيقة هذا هو مربط الفرس كما يُقال، كيف يمكن إعادة بناء الحياة، ليس لهذا المليون من الأطفال فقط، وإنما لكل أبناء القطاع، وقد بات منهم أكثر من 150 ألف جريح، وللخمسين ألف شهيد، أهل وأحبة باتوا بقلوب مكلومة، وللنازحين هموم ومشاغل لا حصر لها، لإعادة ما كانوا يعرفون من حياة، وعلى الأقل بأبسط أشكالها.
أجل هذا هو مربط الفرس، إعادة بناء الحياة، ولعلنا سنجترح معجزة في هذا السياق، لكن هذا سيتطلب نقدًا، ومراجعة، ومحاسبة، لا مُساءلة فقط، لكل من وفر ذريعة لإسرائيل الاحتلال والعدوان لتشن هذه الحرب المدمرة على قطاع غزة، وتصيبه بهذه النكبة المهولة، لا بد من هذا النقد، وهذه المراجعة، وهذه المحاسبة، وليس فقط لصانعي الذرائع، وإنما كذلك لكل من روج خطابًا هلاميًا، وتحليلاً سياسيًا، وعسكريًا، جعل من القطاع قلعة نووية، ستحرر فلسطين، وفضاء العرب، من طائرات القصف الإسرائيلية.
إعادة بناء الحياة في القطاع الذبيح ستظل ممكنة بعد اليوم، إذا ما خرجت خطابات الخديعة والفتنة من مشهد الكلام، وإذا ما رفع الملثمون اللثام عن وجوههم، وتخلص الحزبيون من عصبويتهم، والتابعون من تبعيتهم، وإذا ما تمكن القانون من سيادته، بقرار واحد، وسلاح واحد، وسلطة واحدة.
ثمانون مليار دولار لإعادة الاعمار، موازنة إيران قرابة الـ400 مليار دولار، فهل ستساهم طهران في عملية إعادة الاعمار لقطاع غزة، وهي التي مولت قبل هذا اليوم "الطوفان" بـ250 مليون دولار كانت تدفعها لحركة "حماس" سنويًا؟؟ ولهذا -ليس تجنيًا، ولا مجافاة للحقيقة- هذه الأموال الإيرانية التي كانت تدفع لحركة "حماس"، والأخرى "للجهاد الإسلاموية"، اتضح في المحصلة -حسب هذه النكبة الاقتصادية- بأنها قادت إلى استثمار في التدمير، لا في المقاومة.
يبقى طبعًا أن نشير إلى الخسارة الأعظم، ساعتنا الديموغرافية، عادت للوراء بأكثر من خمسين ألف شهيد وشهيدة، وثمة أخرون ما زالوا تحت الركام.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها