حين قامت الحرب الأهلية الإسبانية، جمع بيكاسو لوحاته وباعها جميعًا، بمبلغ وصل إلى نصف مليون من الفرنكات الفرنسية، وعاد إلى وطنه إسبانيا ليكون مع المناضلين المدافعين عن الحرية والديمقراطية والعيش الكريم ضد الجنرال فرانكو.

وحين قصفت الطائرات الألمانية المتحالفة مع فرانكو، بلدة غورنيكا، وخلفت مجرزة دموية مروعة، تألم بيكاسو كثيرًا، ونهض لكي يخلد تلك الأرواح البشرية البريئة التي ذهبت ضحية الوحشية، فرسم لوحته "غورنيكا" التي صارت أشهر لوحة عالمية تشير إلى ضحايا الحروب الغاشمة، وتصور مشهدية الأرواح وهي تطلق صرختها الأخيرة، والأعضاء البشرية المقطعة، والحيوانات المقتولة، والبيوت المهدمة، والأضواء الغائبة، والحراب التي غرزت في جسد الحصان، والمرأة التي تدلى عنقها وهي تصرخ من نافذة عالية، وأخرى بدت مشوهة الوجه، وثور يلفظ أنفاسه كلها، وقد جحظت عيناه، وطفل ميت محمول على ذراعي أمه، وطيور تشققت مناقيرها تعبيرًا عن هول ما حدث.

لقد رسم بيكاسو المجرزة على شكل حالة من الرعب والفزع والخوف لأناس بسطاء أتت عليهم الحرب بهمجية ووحشية لا مثيل لهما. وقد ذاع صيت هذه اللوحة وأصبحت معنى لكل مناضلي العالم، ولكل الشعوب المنادية بالحرية، وعرضت اللوحة لأول مرة في باريس فأدهشت أهل الفن والتعبير، فهي تتحدث عن الدماء، ولا أثر للون الأحمر فيها، إنها صرخة الرعب التي تتفجر بالدماء، والمحتشدة بالألم العميق والحزن الموجع، وقد طافت اللوحة في بلدان عديدة، فشاهدها ملايين الناس، وعرضت الأموال الطائلة على بيكاسو كي يتخلى عنها لصالح المتاحف العالمية، وبيوت الفن، غير أنه أبى أن يبيعها، وهكذا بقيت لوحة لا تقدر بثمن، لأن معنى التاريخ ومعنى الجغرافيا ومعنى الوطن لا يقدر بثمن.

ولم يخرج بابلو بيكاسو، شأنه شأن أهل إسبانيا، من أجواء الحرب الأهلية حتى عصفت الحرب العالمية الثانية بأوروبا، فصبغتها بالمآسي والويلات، وسربلتها بالمخاوف، وآنذاك جاءت بيكاسو دعوات كثيرة للعيش في بلدان لم تكتوِ بنار الحرب وجمرها، غير أنه رفض أن يغادر باريس، وقد ضيق الألمان النازيون عليه كثيرًا، حين احتلوا باريس، وحالوا بينه وبين الانتقال، ومنعوا الصحافة من الحديث عنه، وعن لوحاته، وقد كان آنذاك واحدًا من أشهر فناني العالم. ومما يُشِيرُ إليه بيكاسو من حالات تعالق مع الضباط النازيين، قوله إن أحدهم جاءه إلى المرسم، وسأله عن لوحة محتشدة بالتشوهات، والأفواه المفتوحة رعبًا وفزعًا، وسأله إن كان هو من رسم هذه اللوحة، فأجابه: لا أنتم  من رسمها.

ودفعت بكل هذا لأقول، وقد عاشت أجيال من فنانينا الفلسطينيين، كل وجوه مأساتنا، وما أكثرها، فرسموا، ذكورًا وإناثًا، لوحات فنية ذات بهرة لونية، وجمالية في الألوان، ودهشة في التخيل والمجاز، وتعددية في الرموز، بدءًا من قضبان السجن، إلى الأسلاك الشائكة، إلى أشجار الزيتون والبرتقال، إلى الطيور، إلى القناطر والجسور والأعمدة، إلى قبضات الأيدي، والأفواه المكممة، إلى قيود المعتقلات، إلى الحواجز، إلى الطائرات والقنابل والصواريخ، إلى السيارات المصفحة والدبابات والجرافات الراعبة، إلى الأسوار الواقية، والرصاص المصبوب، وعناقيد الغضب. ومعظمها لوحات ذات قيمة فنية عالية، لا تقل في حذقها وقيمتها ورموزها عن ما رأيناه في لوحة بيكاسو (الغورنيكا)، وأسماء فنانينا الفلسطينيين معروفة وبادية مثل الشمس، وجمالياتها الشارقة بالمعنى وأسرار الفن الرفيع معروفة أيضًا، ومع ذلك هي حبيسة قيود تحول بينها وبين المعروفية والحضور، إنها مقيدة مثل آدابنا التي بثثنا فيها أحداث وحادثات تاريخنا وعزوم أهلنا ومعاني الكرامة والكبرياء، فهي لا يترجم منها إلا قليل القليل، بسبب رقابة عدونا الإسرائيلي وسطوته وقدرته على إلحاق الأذى بالمترجم والناشر والعارض والمروج لها.

أجل، ثمة حسرة خشنة ذات أسنان تجول في لهواتنا منذ قرن مضى، وهي موجعة وأليمة لكثرة ما فيها من غصات، لكننا استطعنا أن نمحو الكثير من هذه الخشونة المسننة رغم أنف القوة الإسرائيلية العمياء بالصبر وصناعة الفن الجميل الموحي المحتشد بالأبعاد الإنسانية.

نعم، ومن دون شك، سيقف العالم يومًا، بكل التبجيل والاعتزاز، أمام الآداب والفنون الفلسطينية، حين يمحى الظلم، وحين يتجاسر أهل الظلم على خلع أقنعة الكذب والنفاق والزيف، ليقولوا بصوتٍ جهير: ما أكثر هذا النبل، وهذا الجمال فيكِ، أيتها الآداب والفنون الكنعانية.