في مراجعة لقراءتي لأزمات دولة المشروع الصهيوني النازية المتعددة الأبعاد، طرحت على ذاتي بعض الأسئلة المتعلقة بظاهرة الدولة الإسرائيلية اللقيطة، منها: هل تنطبق على الدولة العبرية معايير محاكاة الدول والمجتمعات الطبيعية، أم هناك فرادة تتميز بها؟ هل التناقضات الداخلية التي عاشتها، وتعيشها في مراحل تطورها تستقيم مع تناقضات مجتمعات الدول والشعوب الأصلانية بنظمها السياسية المتعاقبة، أم هناك افتراقات واختلافات كبيرة؟ ما هو القاسم المشترك، إن وجد، وما هي نقاط الاختلاف؟ وهل أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحزبية والثقافية والدينية، ذات الأزمات التي تشهدها الدول والمجتمعات البشرية الأخرى؟ وما هي الأزمات الأساسية المؤثرة على مستقبل الدولة المارقة والخارجة على القانون؟ وهل أزماتها منفصلة عن أزمات أسيادها في الغرب الرأسمالي، أم أنها شديدة الارتباط به؟ وهل يجوز من حيث المبدأ قراءة تناقضاتها والصراعات البينية داخل المجتمع الإسرائيلي بعيدًا عن القاعدة المركزية لمركباتها الأثنية ودورها الوظيفي؟ وهل تناقضاتها التناحرية مع الشعب العربي الفلسطيني خصوصًا والمشروع القومي العربي عمومًا، هي ذات التناقضات والصراعات بين الدول في الأقاليم والقارات على مساحة الكرة الأرضية؟ وهل هناك شبه مع أشكال الاستعمار الكولونيالي المختلفة، أم تختلف عنها؟ وأين المشترك والمختلف عنها؟
مما لا شك فيه، أن الحركة الصهيونية بدعم واسناد أسيادها في الغرب الرأسمالي تمكنت من إقامة دولتها على جزء من الأرض الفلسطينية، وأنشأت مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية، وسعت لصهر مكوناتها الأثنية والدينية والثقافية في بوتقة المجتمع غير الطبيعي، والطارئ المرتزق، وحاولت عبرنة المجتمع وفقًا للهدف الذي قامت لتحقيقه.

وشهدت الساحة الإسرائيلية تناقضات وصراعات بين مكوناتها الاجتماعية والاثنية والسياسية والحزبية والدينية. بيد أن تناقضات دولة الاستعمار الاجلائي الاحلالي الصهيوني مغايرة للتناقضات في الدول والمجتمعات الطبيعية، ولا يوجد تشابه كبير فيما بينها، ولا يوجد صراع طبقي بالمعنى الحقيقي، لأن الدولة الأداة الوظيفية بكل مركباتها تمكنت من التحكم إلى حدٍّ بعيد في مجمل التناقضات بين الاشكناز والسفارديم، بين العلمانيين والمتدينين، وبين التيارات والطوائف والمذاهب الدينية المختلفة، وبين الفسيفساء الحزبية ذات الخلفية الصهيونية الواحدة والناظمة لدولة المشروع من خلال الخدمات والفوائد والأرباح، التي قدمتها، وتقدمها للجميع اليهودي الصهيوني من خلال النهب المستدام والمتواصل للأرض والمصالح الفلسطينية، وضبطت إيقاع تلك التناقضات. رغم أنها حتى اللحظة المعاشة لم تتمكن من صهر وعبرنة الجميع الصهيوني بمشاربهم وتلاوينهم المتعددة وفق الطموح والهدف الصهيوني.
ومن التجربة العيانية لسيرورة وصيرورة التطور الإسرائيلي، لاحظنا أن كم التناقضات على امتداد الساحة الإسرائيلية وعقود وجودها لم ترق إلى التناقضات، التي تعيشها المجتمعات الطبيعية. لأن القاسم المشترك للكل اليهودي الصهيوني يقوم على أكثر من ركيزة، وحدة الهدف الاستعماري الاجلائي الاحلالي في نفي الشعب الفلسطيني وسرديته وحقوقه السياسية والقانونية، وتأدية الدور الوظيفي ضد الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة العربية والمشروع القومي العربي، ونهب خيرات وثروات العرب، وتعطيل وإعاقة أية تنمية مستدامة في الوطن العربي خدمة لأسيادها في الغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة، ولعبها دور الخندق الأمامي في الإقليم الشرق أوسطي الكبير ضد دول الإقليم عمومًا، وليس في العالم العربي فقط.

لأن الغرب الامبريالي والنيو إمبريالي بزعامة أميركا قدم ويقدم لأداته الوظيفية أشكال الدعم السياسي والديبلوماسي والاقتصادي والمالي والعسكري الأمني والإعلامي بشكل كامل بهدف كبح التناقضات الناشئة في المجتمع الإسرائيلي، والحؤول دون تعمقها وانفلاتها من ضوابط المشروع الوظيفي، ولديمومة دورها في خدمة مصالح الاسياد في واشنطن وعواصم الغرب، وبالتالي فإن أزماتها وتناقضاتها محكومة بتناقضات الغرب، ولصيقة الصلة به، ولخشية الغرب من تفكك دولة المشروع الصهيوني، وعودة المسألة اليهودية إلى سابق عهدها قبل الحرب العالمية الثانية في دول الغرب الرأسمالي. وبالتالي هل سينتفي التناقض ويزول، أم أنه موجود، ولكن مغاير عن التناقضات الطبيعية في الدول المختلفة؟ من المؤكد أن التناقضات والصراعات بين التيارات الدينية والعلمانية، والصراع على كعكة دولة المشروع الصهيوني، هي التي ستفلت ذات يوم من يد الغرب، ولن تتمكن من كبحها، وهذه التناقضات هي التي ستؤدي لتفكك الدولة الصهيونية، لأن بذور فناءها ولدت في رحم المشروع الصهيوني.
ولعل تجربة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني طيلة 373 يومًا كشفت للمراقب بشكل جلي، أن مجمل الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والعسكرية الأمنية تم ضبطها، وإبقاءها ضمن الحدود المسموح بها، ولم تؤثر حتى اللحظة على مستقبل الدولة اللقيطة. لأن الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وإيطاليا قدموا لإسرائيل ما تحتاجه من الدعم، وقدموا لها الحماية على المستوى الدولي في المنابر الأممية، لا بل استباحت واشنطن المنظومة الأممية بما في ذلك محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية ومجلس الأمن وحتى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تجاوزت بكم القرارات المؤيدة والداعمة للقضية والشعب الفلسطيني بقيت دون رصيد.

كما أن الهجرة العكسية من إسرائيل لم تؤثر على مواصلة حربها، لأن الغرب أمدها بالأسلحة المتطورة وأسلحة الدمار الشامل، وجاؤوا بقواتهم ومرتزقتهم من الدول المختلفة لسد العجز في النقص الافتراضي في قوات الجيش الإسرائيلي. أضف إلى أن الدولة العبرية المعتادة على الحروب الخاطفة من خلال الدعم الغربي المتعدد الأوجه، استطاعت مواصلة الحرب الطويلة، وعلى أكثر من جبهة، وتمكن الغرب من إيقاف الدولة النازية على أقدامها كما قال الرئيس جو بايدن، لولا تدخلنا المباشر، لما تمكنت إسرائيل من الوقوف على أقدامها، بالإضافة لموقفه الذي أعلنه أكثر من مرة، لو أن دولة إسرائيل غير موجودة لأوجدتها.
ومن المؤكد، أن الدولة الإسرائيلية المعادية للسلام والتعايش، والمصممة على الإبادة الجماعية وحرب الأرض المحروقة على الشعب الفلسطيني للعام الثاني على التوالي، لا تشبه أشكال الاستعمار المختلفة، فهي ليست استعمارًا تقليديًا، ولا تشبه الاستعمار في جنوب إفريقيا أو ناميبيا ولا الاستعمار الفرنسي في الجزائر، إنما هي استعمار فريد من نوعه. لأنها تريد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والنفي الكامل للشعب الفلسطيني من أرض الوطن الفلسطيني الأم، كونها ترفض القسمة على السلام مهما كان نوعه. ونتيجة الدعم الكامل من الغرب تواصل خيار الحرب والإرهاب، ليس على الفلسطينيين واللبنانيين فحسب، بل على الوطن العربي ودول الإقليم لتغيير مركبات الشرق الأوسط الكبير، بحيث تتسيد على دول الإقليم بشكل كامل، واستباقًا للتحولات الجيو سياسية العالمية خدمة للمصالح الغربية عمومًا والأميركية خصوصًا.