خلال أيام معدودة ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي ثمانية مجازر، ولكن وبالرغم من فداحة المجازر وما تولده من ألم وفقدان لا يمكن تعويضه، فإن الأكثر خطورة، والذي يجدد مصير ومستقبل القطاع، هو ما تقوم به إسرائيل في شمال القطاع، من تهجير قصري لسكانه وفصله عن مدينة غزة وباقي مناطق القطاع. ففي الوقت الذي ينشغل العالم بالتصعيد والحرب الإسرائيلية على لبنان، فإن الجيش الإسرائيلي وبضوء أخضر من المستوى السياسي يقوم بحملة تجويع وحصار مشدد قد يؤدي إلى تهجير المواطنين الفلسطينيين من شمال القطاع، وبما يشمل مخيم جباليا تحديدًا.

هناك خطة إسرائيلية جاهزة "خطة الجنرالات" لتفريغ شمال القطاع من سكانه وتدمير ما تبقى من بيوت ومستشفيات ومدارس وبنى تحتية، وكل من يفكر من الفلسطينيين بالعودة ممن نجحوا في دفعه جنوبًا، فلن يجدوا إمكانية للحياة، إنه أمر يذكر بالقرار الذي اتخذه بن غوريون في شهر تموز خلال حرب عام 1948، بتدمير وحرق القرى الفلسطينية، التي قامت بها الهاغاناة، من خلال عملية تطهير  عرقي واسعة، حيث طردت أصحاب الأرض الأصليين إلى الخارج، وهدف قرار بن غوريون كان في حينه منع عودة الفلسطينيين إلى قراهم، عندما بدأ الحديث عن ضرورة عودتهم، وإن حصل وعادوا لسبب أو لآخر  فلن يجدوا مكان قابلاً للحياة.

وفي شمال قطاع غزة تمهد دولة الاحتلال إلى ضم هذه المنطقة إليها، وفصلها عن باقي القطاع بطريق عريضة تأتي من حدود القطاع من الشرق وحتى البحر، وقد تلجأ دولة الاحتلال إلى وضع حائط فصل وسياج على طول هذه الطريق من الجهة الجنوبية، وبالتأكيد ستعود المنظمات الاستيطانية لبناء مستوطنات أو أن يقيم الجيش الإسرائيلي بنية تحتية عسكرية تجعل من شمال القطاع منطقة عازلة "دفاعية". أما ما تبقى من القطاع فمن الواضح أن إسرائيل ستحاول تقسيمه إلى مناطق غير متواصلة مع بعضها البعض إلا من خلال حواجز عسكرية، وتحويلها لمعازل عنصرية على طريقة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وتترك شؤون السكان إلى إدارات محلية.

الواقع يقول إن إسرائيل قد أعادت احتلال القطاع بعد أن انسحب منه بالكامل في عام 2005 وأن مصيره ومستقبله بات بشكل أو آخر مرهونًا بدولة الاحتلال، أقلها في الأشهر القادمة، أو السنة القادمة. وبناءً على هذا الواقع شديد القسوة، والذي يمثل نكبة ثانية، يتحتم علينا التصرف بمسؤولية وحذر شديد. الخطوة الأولى في هذا المجال: تبدأ من تخلي حماس عن فكرة الانقسام وفصل القطاع عن الضفة نهائيًا، وأن تتوقف عن محاولاتها في الاستمرار في السيطرة على القطاع أو تقاسمه مع الاحتلال. الخطوة الثانية: على حماس أن تعلن وبصريح العبارة أن السلطة الوطنية الفلسطينية هي صاحبة الولاية على القطاع، وهي المسؤولة رسميًا عليه، وذلك لسحب جميع  الذرائع الإسرائيلية، وتحديدًا منع تسلل رفض نتنياهو لاستلام السلطة لغزة. ثالثًا: الاتفاق وطنيًا على توحيد الفصائل الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والمعترف به عربيًا ودوليًا، وخلال ذلك يتم إعادة دمج حماس والتحضير لانتخابات عامة رئاسية وبرلمانية.

وبعد ذلك تأتي الخطوات السياسية التي يجمع عليها الشعب الفلسطيني بهدف إجبار إسرائيل على سحب قواتها من القطاع بأسرع وقت ممكن، ومنعها من تمرير مخططاتها الاستعمارية، ورفض أي اقتطاع لأي جزء من أراضي القطاع كما كانت عليه في السادس من أكتوبر عام 2023.  هذا الموقف بحاجة لرعاية ودعم عربي قوي، بالإضافة إلى دعم مجموعة الدول التي كانت خلال الحرب متضامنة ضد حرب الإبادة الإسرائيلية، وعملت على محاسبة إسرائيل في المحاكم الدولية، والتعاون مع جهة أخرى وفي مقدمتها الأمم المتحدة الأميركية.

ومن القضايا المهمة وهي رفض إنهاء دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، والإصرار على مواصلة عملها، وإعادة بناء مؤسساتها والمدارس والعيادات الصحية في قطاع غزة. وخلال ذلك يقدم كل الدعم الوطني والعربي للجنة إعمار غزة التي شكلتها الحكومة الفلسطينية، وأن أي تعديل على تركيبة اللجنة يمكن أن يتم لاحقًا بعد أن تبدأ اللجنة عملها فعليًا على الأرض، وأن لا نبدد الوقت والجهد في نقاشات تؤثر على المسار الإيجابي المقترح.

إن أي إفشال للمخطط الإسرائيلي بخصوص قطاع غزة يبدأ من داخلنا نحن الفلسطينيين، بأن نبدي قدرًا قويًا للوحدة في الموقف والممارسة، وألا يعطي أي طرف المبرر للتملص من المسؤولية، في دعم تحرير القطاع وإعادة بنائه، لأن الخطوة الأهم في حل الدولتين والحفاظ عليه تبدأ اليوم من استعادة قطاع غزة وإعادة إعماره بالتوازي مع مواجهة عمليات التوسع الاستيطاني ومخططات الضم في الضفة. أي محاولة لإعادة الواقع الفلسطيني إلى مربع الانقسام، أو عدم التخلي عنه فورًا سيكون خدمة للعدو الإسرائيلي، ويسهل ما تسعى إليه إسرائيل من تصفية حل الدولتين والقضية الفلسطينية عمومًا.