الآن، وبعد أن رأيت هذا "الفيديو" القصير لامرأة أميركية/يهودية عاشت وقتًا طويلاً في الكيان الصهيوني، وخرجت منه الآن في أثناء هذا القتل العنصري الدموي، غير المسبوق في الدنيا، الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ 76 سنة وإلى اليوم، والذي تقول فيه كلامًا مهمُا وهي تبكي. المرأة ليست عجوزًا تفكر بالقبر والآخرة، وليست متدينة أيضًا، ولا أن حماستها للأخلاقيات غلت وفارت فجأة، لقد قالت ما قالته لأنها رأت ما لا تطاق رؤيته في بلادنا الفلسطينية، ضد الفلسطينيين، بشرًا وحياة وأحلامًا.

أقول، إنني الآن تذكرت، بعد أن رأيت هذا الفيديو، سيرة الأميركي/اليهودي نعوم تشومسكي (1924- ..) الذي هلل، وهو طالب جامعي يدرس في الولايات المتحدة الأميركية لقيام الكيان الإسرائيلي فوق الأراضي الفلسطينية، وهو يهودي ابن أبوين يهوديين، وأنه حالما تخرج من الجامعة، جاء إلى الكيان ليعيش في أحد الكيبوتسات الإسرائيلية لأن حماسته للروح النقابية والاجتماع، لمجتمع زراعي، أو لمجتمع صناعي، كانت عالية، وظلت عالية إلى يومنا الراهن "لأنه يعيش في حالة مرض سببت له الخرس، فهو لا يقوى الكلام".

تشومسكي، عاش ثلاث مرات في الكيبوتسات الإسرائيلية، وفي فترات مختلفة، وكل مرة امتدت على مدار ستة أشهر، ومن خلالها عرف بنية المجتمع الإسرائيلي، وعرف مقابض القوة التي تسيطر عليه، وعرف من هم الذين يتخذون القرارات فيه، وعرف الصفات واجبة التوافر في الخلق لكي يستطيعوا العيش فيه، وعرف مرامي السياسة الإسرائيلية، وأهم أسباب العداء الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، مثلما عرف ما يريده الكيان الإسرائيلي من الفلسطينيين، وقد كتب ذلك في كتب ومقالات عدة، وأهم ما فيها هو قولته بأن المجتمع الإسرائيلي يتعلم فنون العنصرية وأساليبها في المدارس كي يتقنها ببراعة، وأن الإسرائيليين يعيشون حياتهم وهم يخوضون الامتحانات من أجل أن ينجحوا في حصد لقب عنصري، وقادة هذا المجتمع، ويعني بذلك السياسيين والأمنيين والاقتصاديين والعسكريين والمتدينيين والأكاديميين الإسرائيليين، يتسابقون كي يكونوا ملوكًا للدم، حتى أولئك الذين ادعوا بأنهم يساريون، واشتراكيون، وديموقراطيون، شاركوا أيضًا في هذا السباق ليكونوا ملوكًا للدم حين استلموا مناصب سلطوية، ويضرب مثالاً يدور حول شخصية شمعون بيريس "1923-2016" الذي يقول عنه إنه، عاش حياته يكذب بأنه يساري وديموقراطي ويدعو  للتعايش السلمي، فهو من سلح الكيان الإسرائيلي بالسلاح النووي في الخمسينيات، وهو من قتل أهالي القرى الجنوبية في لبنان في عام 1996، مع أنهم استجاروا بالقوات الدولية ولاذوا بأبنيتها، طبعا هو يتحدث عن مجرزة قانا "1996".

في عام 2010 قال تشومسكي كلامًا خطيرًا ومهمًا، وجديرًا بالمواقفة، عن الكيان الإسرائيلي، من أنه مجتمع يمضي إلى الانهيار الحتمي، فالديموقراطية فيه كذب إعلامي "بروباغندا"، والخلافات السياسية والدينية والثقافية، والاقتصادية فيه تناحرية، وبنية المجتمع جزيرية "من كلمة جزيرة" غير قابلة للحمةـ أو المشاركة أو المعاضدة.

في عام 2010 قال تشومسكي هذا الكلام، بعد أن منعته السلطات الإسرائيلية من الدخول إلى الضفة الفلسطينية، تلبية لدعوة من جامعة بيرزيت، وفي أثناء التحقيق معه لساعات طوال فوق جسر العبور، طلب منه المحقق الإسرائيلي أن يلقي محاضرة مماثلة في جامعة إسرائيلية،  فرفض، وقال للمحقق هذه الديكتاتورية التي تمارسونها عمياء، أو هي ثقافة عمياء، وستقود المجتمع الإسرائيلي إلى التفكك والانهيار، وقال أيضًا: أنصاركم، أنصار إسرائيل، هم في الحقيقة، أنصار لانحطاطها الأخلاقي ودمارها النهائي الذي يقترب زمنه أكثر فأكثر.

طبعًا، انقلاب تشومسكي تجاه الكيان الإسرائيلي، جاء بسبب معرفته بهذا الكيان أولاً، وبسبب توجهات السياسة الإسرائيلية ثانيًا، ثم بسبب الممارسات العنصرية البغيضة التي لا تماشي ما نادت به الأخلاقيات في العالم، ثالثًا، وكذلك عدم الاستفادة من دروس التاريخ رابعًا، وكل  هذا يسميه تشومسكي بالعماء الديكتاتوري.

أما هذه السيدة الأميركية الشابة التي ذكرتني بنعوم تشومسكي، فقد خرجت من الكيان الإسرائيلي في هجرة نهائية لأنها رأت تغول الإسرائيليين في الدم الفلسطيني، وقتلهم للفلسطينيين، صغارًا وكبارًا، لأتفه سبب، وأن الكيان الإسرائيلي أحاط القرى، والطرق، والحقول، والمعامل، والورش الصناعية الفلسطينية بآلاف الكاميرات الراصدة للسلوك الفلسطيني، وأن الكثيرين منهم يقتلون بسبب "فيديو" صغير مدته لحظات فقط، وأن كل مداهمة لجيش الاحتلال الإسرائيلي للبلدات والمخيمات الفلسطينية يعني إضافة المزيد من الكاميرات التي تصور ما في الشوارع فقط، بل تصور ما هو داخل البيوت أيضًا، وتقول الأميركية: "أنا نجوت من الموت، وخرجت من الجحيم فالأسلحة الإسرائيلية الأوتوماتيكية موجودة في كل نقاط المراقبة والحواجز، وهي تطلق النار تلقائيًا لمجرد الاشتباه، وتقتل".

وتقول: الفلسطينيون يعيشون في سجون، سجن في البيوت، وسجن في الشوارع، وسجن في الحقول، وسجن في الجامعات والمدارس، إنهم بلا حرية، ويعرفون أنهم يعيشون مع من يكرهونهم، إنهم بلا أفق، بلا أحلام، بلا أي شكل من أشكال الحرية والحياة الكريمة، ومن لم يعش في إسرائيل، لن يعرف معنى الاحتلال والعنصرية اللذين يمارسان ضد الفلسطينيين، لهذا لا خيار أمام الفلسطينيين لافتكاك أنفسهم من مسننات العنصرية الإسرائيلية إلا بالثقة بالنفس. فالإسرائيليون لا يحترمون تاريخًا، ولا دينًا، ولا أخلاقيات أو قيمًا إنسانية، ولا مؤسسات أو هيئات حقوقية عالمية.

بلى، ربما ثقافة هذه السيدة الأميركية الهاربة من الجحيم الإسرائيلي كما قالت: "لا توازي ثقافة نعوم تشومسكي في الأهمية والقدرة على بلورة الأفكار، لكنها ثقافة إنسانية مشتركة فيما بينهما تقولها الفطرة، وتقولها الحواس، مثلما يقولها الضمير.. والعقل أيضًا".