الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

في اليوم الثاني، غادرنا بيت السيدة الكريمة، كانت الأمور قد هدأت نسبيًا وعدنا إلى مخيم شاتيلا، وتحديدًا ومباشرة إلى الملجأ، ثم أتى أمر الله ولا راد لقضائه، لقد خرجت أختي الكبرى والدة الطفلتين لتضع ثياب ابنتيها في الشمس قليلا على سطح المبنى، ولم نسمع حينها أيّ صوت رصاص أو قنابل، فاعتقدنا أنَّ الأمور قد استقرّت وهدأ كل شي.. غير أنّ أختي ما إن صعدت إلى السطح حتى كان القنّاص أسرع إلى قطف روحها! سقطت أختي شهيدة، تاركةً لنا وجعًا كبيرًا أُضيف إلى سجِّل القهر الذي كُنَّا نعيشه، لقد كانت المرة الثانية بل الثالثة التي تفقد فيها أمي قطعة منها، ويستولي على روحها قهر آخر ينهش روحها.

تلَّقت أمي الخبر بصدمة كبيرة، كانت تنظر إلينا وتذرف دموعها.. شعرت بأنها غريبة، تحتضن الطفلتين وتبكي بحرقة شديدة وهي تردد: "لا إله إلا الله إنا لله وإنا إليه راجعون"، شعرت بأنّها تذرف دمًا وليس دمعًا، وشعرت بأنها تريد أن تكون قوية أمام الطفلتين رغم أنهما غير مدركتين لما يدور حولنا.. هكذا بقيت الطفلتان مع والدتي لتحملهما في قلبها وروحها، وفي رحلة الاختباء والهروب والفقد.

كانت طفولتي ممزوجة بين فرح بريء مرّة ومأساة لا أعلم معالمها وأسبابها مرّات عدة، رغم ذلك كنت أحب تفاصيل المخيم وأزقّته الضيّقة وأناسه الطيبين، لكنها المجازر اللعينة التي تفتك بأبناء وطني ولا تمنحهم الوقت للعودة وضمّ تراب الوطن حتى وإن كان قبرًا. أحببت معسكر "الفتح"، وأحببت نادي "الأرض" حيث كنا نتعلم كل شيء يختص بالقضية الفلسطينية.

خلال الاجتياح ذهبنا مرة أخرى إلى منطقة "الحمرا" التي تقع في غرب مدينة "بيروت". كنت أسمع بإسمها من قبل لكنها المرة الأولى التي أذهب إليها، لم يكن لدينا أقرباء خارج المخيّم وليس لنا حياة أخرى نعرفها غير أرضه وسمائه.

كانت نزهتي دومًا إلى سوق الخضار في منطقة "صبرا" المحاذية للمخيم، وقد ارتبط اسمها بـ "شاتيلا"، حتى أنّ مدارس وكالات الغوث والعيادات الخاصة باللاجئين الفلسطينيين كانت ضمن مخيَّمَي "صبرا وشاتيلا".