المذابح وكما تضع النهايات فهي تضع البدايات أيضاً، فالمذابح تعيد تعريف الأشياء من جديد، تعريف الاعتدال والتواضع والاعتبار أو حتى الشعور بالمشاركة أو التسوية، فالمذبحة تسقط أجمل ما في الانسان؛ تسقط الرحمة والاعتراف بالآخرين والقدرة على احتمالهم. المذبحة بهذا المفهوم ارتماء في العبث واللاجدوى واللامعنى، وهي نكران وكفر بإمكانية الاستمرار والتواصل. المذبحة عناق مميت لليأس والإحباط وكأنها تدفع إلى مناطق جديدة من الوعي أو اللاوعي على حد سواء. المذبحة نهاية حقاً لما قبلها، وبداية لما سيأتي بعدها، واضحاً وحاسماً ومخيفاً أيضاً.
وباستقراء المذابح التي ارتكبت في كثير من بقاع العالم ، نفاجأ بأن المذبحة ثبتت ما أرادت أن تنهيه أو تنفيه، وكأن الدم المسفوك، كان حبر التوقيع على وثيقة عهد آخر وجديد، المذبحة ورغم هولها لم تستطع أن تنتصر، والمذبحة لم تستطع أن تضيف شيئاً سوى الألم الذي لا ولن ينسى، ألم يتحول بفعل الزمن والقداسة إلى أسماء وأشعار وأماكن وبنايات وأسطورة تتدحرج من قلب إلى قلب إلى أبد الآبدين.

المذبوحون لا يموتون، إنهم يتركون أحلامهم المغدورة "وتحويشة العمر" وشجرة الكرمة في صحن الدار للريح التي ستنقل حكاياتهم إلى الأجيال القادمة، وستظل عيونهم المليئة بالفزع تخترق قلوب ذباحيهم حتى يضطر هؤلاء إلى الانفجار للتخلص من ثقل الذنب وفداحة الدم.
ليس هناك من مذبحة تزول، وليس هناك من مذبحة لا تتحول إلى معلم من معالم الطريق والذاكرة والوجدان، فالضحية تملك قوى أيضًا، وتملك أدواتها الفاعلة للنجاة والانتشار، الضحية قد تكون مرتبكة وعاطفية وكثيرة الصراخ وغير مقنعة ولا تجيد العلاقات العامة، ولكنها تمتلك أيضاً قوتها النابعة من ضعفها واستسلامها وجلدها وقدرتها على التجاوز والتكامل والتجلي والتحلي بآخر ما يمكن للإنسان أن يتمسك به ليكون انساناً، ولذلك فإن المذبحة تنجينا وتنظفنا وتغسلنا من الأدران والعيوب، هل كانت المذبحة ضرورية ليرى الإنسان كم هي رديئة خياراته وكم هي ضيقة آفاقه وكم هي أنانية رؤاه واعتباراته.

وهل يمكن للمذبحة أن تكون هي الحل إذاً؟ الحل للصراع مهما كانت أسبابه ودواعيه ؟!
وهل يمكن أن تشكل المذبحة الرادع والمعيار من جهة والسقف الأكثر جنونًا للسلوك البشري من جهة أخرى ؟!
وقد نختلف على الاجابات، فمن قائل أن المذبحة تتكرر عبر التاريخ، وأن حضارات الماضي وحضارات اليوم قامت على مذابح ومجازر كما يقول الناقد الشهير تودوروف، وأن الفرق بين مذابح اليوم والأمس هو تغيير القرابين أو اختلافها، ومن قائل أن المذبحة هي الطريق المضمون إلى الخسران الكامل والنبذ العالمي الواسع، كما رأينا ذلك في أنظمة نازية، وشوفينية وشاملة ودكتاتورية، فالعالم لا يحتمل المذابح ولا مرتكبيها، وسرعان ما يتم نبذهم أو محاصرتهم أو إدانتهم.
وبغض النظر عن هذا الجدل على أهميته السياسة والفكرية إلا أنه في حالتنا وفي منطقتنا، فإن المذبحة بغض النظر عن مرتكبها، ستقوده حتماً إلى الحصار والنبذ والانفجار. المذابح تصنع التاريخ حقاً، فإذا كان الألم هو القاسم المشترك بين الذابح والمذبوح، فهذا يعني أن لا ضمان هناك لأحد.