تكمن أهمية تسليط الضوء على المجتمع الأميركي في كونه حاضنة الإمبراطورية الأميركية وزعيمة العالم ككل والغرب الرأسمالي خاصة، وصاحبة اليد الطولي في إقليم الشرق الأوسط تحديدا في الوطن العربي، وكابحة أي عملية نهوض أو استقلال حقيقي للدول العربية، وتعمل على إخضاع دول الأمة لمشيئة ربيبتها إسرائيل، وتفرض عليها التطبيع المجاني مع الدولة العبرية، وبحكم أنها حاضنة وحامية وقائدة دولة إسرائيل الاستعمارية الفاشية في حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني، والتي تعطل عملية السلام على المسار الفلسطيني الإسرائيلي حتى الآن. 


ولهذا أحرص على قراءة التطورات والانزياحات الإيجابية في المجتمع الأميركي، لما لذلك من آثار وارهاصات تراكمية كمية ونوعية في المستقبل المنظور على الدولة العميقة والبنائين الفوقي والتحتي الأميركي. لاسيما وأن ما أحدثته حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني منذ 122 يومًا حتى الان يجد انعكاسه التدريجي المقبول على الشارع في الولايات المختلفة رغم النفوذ الكبير والهائل للإيباك والمنظمات والجماعات الصهيونية والمسيحانية المتصهينة المدعومة من أباطرة رأس المال المالي الامبريالية، التي تسيطر عمليًا حتى الآن على المؤسسات الفيدرالية وداخل المجلسين الشيوخ والبرلمان وتقاتل بشراسة غير مسبوقة دفاعًا عن الدولة الإسرائيلية اللقيطة صنيعتها وصنيعة الغرب الرأسمالي عمومًا.


وارتباطًا بما تقدم، وجب التوقف أمام الاستطلاع الذي نشرته وكالة "الاسوشيتد برس" يوم الجمعة 2 فبراير الحالي، وتم ما بين 25 و28 يناير الماضي، والذي تزامن مع مقتل 3 جنود أميركيين شرق الأردن في أوساط الشعب الأميركي، لما له من أهمية استدلالية في قراءة التحولات الإيجابية النسبية نتاج عامل حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، حيث أظهر الاستطلاع، أن نصف الأميركيين البالغين يرون أن دولة النازية الإسرائيلية تجاوزت الحد اللازم "في حربها المتواصلة على قطاع غزة".


وأشار الاستطلاع الذي أجرته الوكالة بمشاركة مركز "AP-NORC" أن 33% من الجمهوريين يقولون إن الرد العسكري الإسرائيلي وضمنًا الأميركي والاوروبي الرأسمالي قد ذهب إلى أبعد من اللازم، مقارنة ب18% في نوفمبر الماضي، ويتفق مع ذلك 52% من المستقلين، و62% من الديمقراطيين, وبالمتوسط العام فإن 50% من البالغين الأميركيين يتوافقون مع الرأي المذكور أنفًا، وهذا الانزياح الكمي أفضل نسبيًا من استطلاع أجراه مركز AP-NORC في نوفمبر 2023، الذي كانت نسبتة 40%. وهو ما يعني ارتفاع نسبة الرافضين للطريقة التي يتعامل بها الرئيس جو بايدن وإدارته مع الحرب الوحشية والمروعة على قطاع غزة للشهر الربع على التوالي. 


وبقراءة موضوعية للاستطلاع، يمكن الجزم أن ما يشهده الشعب الأميركي من تحول نسبي لم نراه أو نلمسه طيلة عقود الصراع الممتد لعقود ثمانية خلت، مما يشي ان هذا الانزياح سيكون له نتائج إيجابية في المستقبل على مواقف الإدارات الأميركية الحالية واللاحقة، لأنه يحمل في ثناياه انعكاسًا على الوعي الأميركي الجمعي، الذي لم يكن يبالي بمجريات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكان مسلمًا بالرواية الصهيو أميركية دون نقاش، ويتعامل معها كحقيقة لا تخضع للنقاش.
بيد أن ما أفرزته حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني من فظائع وحشية لا إنسانية غير مسبوقة في التاريخ، التي تقودها إدارة بايدن الأميركية مع أداتها المارقة والخارجة على القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي إسرائيل أيقظ الوعي الأميركي على حقائق جديدة، أخرجته من سباته التاريخي، وفتحت عينيه على وقائع جديدة، لم يكن يدركها تمامًا. 


ومما لا شك فيه، أن النخب الديمقراطية عمومًا واتباع الديانة اليهودية من جيل الشباب خصوصًا والجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية والسود واللاتينيين الأميركيين أسهمت جميعها بدور مباشر في تحريك المياه الراكدة داخل المجتمع الأميركي، وأحدثت هذا الانزياح النوعي النسبي والهام. 
وطالما استمرت حرب الإبادة الجماعية على الشعب العربي الفلسطيني عمومًا وفي قطاع غزة خصوصًا فبالضرورة سيشهد الشعب الأميركي المزيد من الانزياحات الإيجابية، وسيكون له دورًا في الانقلاب على جماعات الضغط الصهيونية والمسيحانية الافنجليكانية والبيض عمومًا في المستقبل المنظور، وقد يكون له انعكاس واضح في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر القادم. وأي كانت النتائج تفرض المسؤولية على القوى الإيجابية في المجتمع الأميركي مضاعفة جهودها لاحداث التحول النوعي الراسخ تجاه قضية الشعب العربي الفلسطيني، ورفضًا للرواية الصهيونية المزورة، وكبحًا لسياسات الدولة العميقة الأميركية المتعامية عن رؤية الصراع، كونها تكيل بمكيالين وبمعايير مزدوجة.