تقرير - رامي سمارة

تبقت شتلة زيتون واحدة. طلب منه أن يبقى، يغرسانها ثم يغادران الأرض سوية نحو البيت. لم يستجب رائد لطلب والده، ونصحه بالتأني في زراعة الشتلة، فقد يغرسها في مكان آخر.

كان ذلك مع بدء حلول ساعات مساء الأمس، وقبل انتهاء يوم عمل في أرض العائلة بقرية المغير شرق رام الله، التي أخذ الاستيطان ينخر أطرافها، فبقي أصحاب الأرض ما تبقى منها بعمارة الأرض.

يقول غازي النعسان: "كنا نزرع أشتال زيتون، فأراد المغادرة، فأشرت إلى أنه لم يتبق سوى شجرة واحدة، فقال هذه قد تغرسها بجوار قبري حين استشهد".

حينها كانت المغير تشهد مواجهات مع قوة من جيش الاحتلال، اقتحمت القرية لتوزيع إخطارات هدم طالت 4 منشآت بين منازل ومحال تجارية.

وسبق ذلك أن هاجم مستوطنون منازل المواطنين على تخوم البلدة، وتوارت أنباء ارتقاء أربعة شهداء، اثنان في كفر عين وثالث قرب مدخل البيرة الشمالي ورابع من بيت أمر بالخيل.

يضيف غازي: "قال لي رائد وهو يغادر الأرض، فقدنا منذ الصباح أربعة شهداء، والآن بدأت المواجهات في البلدة، وقد أكون الخامس. أريد اللحاق بالشهداء".

في طريقه من الأرض إلى وسط البلدة للتصدي لاقتحام الاحتلال، تعرض رائد النعسان لثلاث عمليات إطلاق نار، آخرها كانت عند باب منزله، وأصيب على إثرها وارتقى شهيدا.

بجوار المنزل المقابل للمسجد وسط المغيّر، أقام شبان البلدة في منتصف الطريق صرحا صغيرا أحاطوا به الدماء التي رشحت من جسد الشهيد بعد إصابته.

وأظهر فيديو نشر بالأمس للحظة إصابة النعسان، وهو يعدو صوب مجموعة من الشبان، الذين كانوا يرشقون جنود الاحتلال بالحجارة. ولما وصل لهم حملوه مسرعين وأثار الدماء النازفة من صدره تبدو واضحة على ملابسه.

وعلى وقع طلب سيارة إسعاف لتقل رائد إلى المستشفى، ظهر في الفيديو ضابط الإسعاف في الإغاثة الطبية مجاهد أبو عليا، الذي تواجد في المكان لتقديم الإسعاف في حال وقوع إصابات في المواجهات.

ويقول أبو عليا، إن جيش الاحتلال كانوا يتمركزون قرب سور مقابل لمنزل عائلة الشهيد، وأطلقوا الرصاص الحي فأصابوا رائد في منطقة تحت الإبط برصاصة اخترقت صدره بهدف القتل.

ويذكر أبو عليا أن جنود الاحتلال لم يكونوا وحدهم من أطلق النار، إذ شاركهم في ذلك ضباط ما يسمى "الإدارة المدنية" وأحدهم كان بلباس مدني، مؤكدا أن إطلاق النار استهدف كل من كانوا في المكان، بمن فيهم هو، المسعف الذي يتميز ببزته البرتقالية.

في منزل ذوي الشهيد، علق في الفناء الخارجي يافطة نعي تحمل اسم الشهيد رائد غازي النعسان وصورة له، وتحتها امتدت صفوف المعزيات وصولا إلى غرفة المعيشة والمطبخ في الداخل.

وفي صدر البيت كانت والدة الشهيد تحتضنها شقيقتها وشقيقته، تبكي وتحكي عن آخر أمنيتين باح بهما أمامها بزيارة المسجد الأقصى وبإقامة حفل لشقيقه الأسيرين مجاهد المحكوم بالسجن 30 شهرا، ومجاهد الموقوف الذي لم يصدر بعد ضده حكم.

وتقول والدته فاطمة: "بالأمس، قال لي أمنيتي أن أزور المسجد الأقصى، فأجبته بأنك حاولت ولكن الاحتلال منعك. وكان يحلم أيضا بإقامة حفل استقبال لشقيقيه الأسيرين عند تحررهما من سجون الاحتلال، ولكن لم يكتب له ذلك".

شقيقته براءة، التي حاولت جاهدة منع النساء من بكاء الشهيد، لم تتمكن من حبس دموعها حين تحدثت عن شقيقها الشهيد الحنون، إذ كان يطلب من والده أن يفضل شقيقيه عليه.

وتقول: "كان يرفض أن يقوم أبي ببناء شقة له قبل شقيقينا الأسيرين، أو أن يقيم له حفل زفاف قبلهما. وكان يؤكد دوما أن الأجور التي يتقاضاها مقابل عمله سيدخرها لهما".

تخرج الشهيد رائد النعسان من جامعة الاستقلال، وهو أسير سابق، اعتقل عدة مرات في سجون الاحتلال لمدة إجمالية تقارب العام.

وكان قد أصيب برصاص الاحتلال المعدني مرتين، في مواجهات عند الطريق الالتفافي الملاصق لبلدته المغير شرق رام الله، في المنطقة التي طالما تعرضت لانتهاكات الاحتلال والمستوطنين.

تقول شقيقته: "لم تثن الإصابات ولا الاعتقال من عزيمته، بل على العكس من ذلك، فهذا يشجعه أكثر على مقاومة الاحتلال".

غازي النعسان والد الشهيد هو أسير سابق قضى في سجون الاحتلال ما مجموعه 9 سنوات، وجده هو المناضل الراحل عيد النعسان، الذي أصيبت واعتقل عام 1968 في معركة مع الاحتلال في منطقة "المتباركية" شرق المغير، وصدر ضده حكم بالسجن لمدة 6 سنوات.

وعام 1979، اعتقل مرة ثانية على خلفية مشاركته في عمليات قتل عملاء للاحتلال في منطقة نابلس، وحكم بالسجن 3 مؤبدات.

وفي صفقة التبادل التي تم التوصل لها عام 1983 بين حركة "فتح" وسلطات الاحتلال، تم الإفراج عنه وأبعد إلى ليبيا، قبل أن يعود ويستقر في الأردن التي فارق فيها الحياة عام 1994.

وفي كلمة ألقاها نيابة عن حركة "فتح" أثناء مواراة الشهيد رائد النعسان الثرى في مقبرة المغير، قال رئيس نادي الأسير قدورة فارس، إن عائلة الشهيد تشكل نموذجا للثورة والكفاح أبا عن أب، فيما تمثل البلدة حصنا منيعا وقلعة راسخة ورمزاً للكرامة والتحدي.

وأضاف أن هذه الحالة النموذج لم تقدم دورها في طفرة زمنية محددة، بل هي نابعة من بلدة حمل أبناؤها راية النضال، ويحضر منها إلى الذهن جد الشهيد البطل عيد نعسان، الذي تعرفه قلاع الأسر كرمز ومكافح، وكذلك والد الشهيد الذي حمل الراية عن والده وظل على عهد الشهداء والأسرى.

دفن الشهيد رائد النعسان بجوار الشهيد حمدي النعسان، الذي ارتقى في كانون الثاني / يناير 2019 أثناء تصديه مع أبناء قريته لهجوم شنه مستوطنون، وكان رفيق درب الشهيد الطفل ليث أبو نعيم، الذي أطلق جنود الاحتلال النار على رأسه بشكل مباشر في كانون الثاني / يناير 2018، حين هب أهالي المغير للتصدي لقوة من جيش الاحتلال اقتحمت القرية آنذاك.

وأشار قدورة فارس، إلى أن رائد كان يمارس بالأمس مع والده شكلاً آخر من أشكال المقاومة، حيث كانا يزرعان الزيتون الذي يمثل في الوعي الجماعي رمزا للبقاء والثبات، فقال لوالده ابق أنت في هذه الجبهة وازرع الزيتون وأنا سأخرج للجبهة الأخرى لملاقاة الأعداء الذين يتطاولون على البلدة ويعتدون على أهلها".