أعترف أنّ أدب الرحلات، أو السيرة، قد أمدّني بمعارف ما كان لي أن أستحوذ عليها من الكتب المدرسية، أو الكتب السياسية، أو الكتب التي تحدّثت عن الحروب وما رسّبته من آثار كريهة، ولأنّ موضوعات أدب الرحلات كثيرة ومتعدّدة ولها تشعّبات كثيرة فإنّني سأقف عند ثلاث فاصلات تاريخية من جملة فاصلات لا يمكن الوقوف عليها جميعاً، هذه الفاصلات أواقفها الآن، كيما أقول لأهل الخور، والتطيّر، واليأس من جهة، ولأهل النظرات السطحية التي لا تعرف الأعماق ومكنوناتها والأنفاس القصيرة التي لا تعرف معاني التريّث والتلبّث والتهيّب أمام ما هو مصيري وجوهري وجليل، وأهل الخُطا التي تولد في التعب والشكوى والتذمّر فلا تعرف عشق الدروب، وما ترمي إليه من بهجة التلاقي والوصول من جهة أخرى، أقول استهلالاً أو استباقاً، ثمّة أمور في الحياة لا تعرف القدم الرهين بالقوّة والإخافة، مهما طالت آماد هذه القوّة، وكثر رهاب الإخافة، لأن الشعوب والبلاد لا تحكم بالظلم وإن عمَّ، ولا بطيوفه وإن تعددت، ومن هذه الشعوب شعبنا، ومن هذه البلاد، بلادنا العزيزة.

في الفاصلة الأولى، تروي كتب الرحلات العلوق بالتاريخ أنّ المرء المدوّن لسير المدن والقرى والبراري التي حكمتها الإمبراطورية الرومانية، عرف القلاع، وضروب القوّة الرومانية، ومنها قوّة الجيش، والسيطرة على الدروب، والثغور، والمدائن، والحقول، وعرف عبر حواراته مع الناس قصصاً مهولة من المظالم التي أصابتهم هنا وهناك ، خرج بنتيجة فحواها أنّه كان من الممكن لهذه الإمبراطورية أن تكون آبدة في حضورها وقوّتها، ولكن، وهذا هو المدهش، كلُ شيء انمحى وتلاشى، لأنّ تلك القوّة كانت قشرية، ورهينة بثنائية القتل والخوف، وكلّ ما هو قشري، محرّمةٌ عليه الأعماق والجوانيات، لذلك تلاشت السطوة الرومانية واندثرت رغم قوّتها الرّاعبة.

الفاصلة الثانية، تروي أحداثها أيضاً كتبُ الرحلات، وهي تخصّ مرحلة المغول والتتار، وهي مرحلة اتصفت بالتوحّش الذي أخاف كلّ من كان على ظهر الأرض، في هذه البقعة الجغرافية التي تسمّيها كتب الرحلات، البقعة السحرية النادرة والفريدة في كلّ شيء. لقد أخاف المغول والتتار البشر والحجر والشجر؛ لكنّهم رحلوا مرغمين، لسبب بسيط هو أنّهم غرباء، حتّى قوّتهم ظلّت غريبة ومستهجنة، بل باتوا المثال والشاهد على كلّ ما هو غير إنساني، بعدما لحقت بهم صفات الجلافة، والدموية، والعماء، واللا حضارية.

والفاصلة الثالثة التي أشبعتها كتب الرحلات وصفاً حديثاً وتفنيداً هي مرحلة حروب الفرنجة التي خوّضت في دماء أهل هذه المنطقة طوال قرنين من الخوف، والتدمير، والتحطيم، والحرق، والتجفيف لكلّ ما هو إبداعي /إنساني/ حضاري، لقد دمّروا الإنسان، ومحو صورته، وحيّدوا هيبته، ونهبوا وسرقوا حتى العافية من الأنهار، والأرض، لكنهم رحلوا لأنّهم غرباء، لم تحمهم أسوار القوة التي عززوها يومياً، ولا أسوار الإخافة التي أحاطت بالبيوت والنفوس، بعدما أحاطت بالمدائن والقرى، والسواحل، والصحارى.

هذه الفاصلات التاريخية الثلاث، هي مرايانا، لأنّها مرايا أجدادنا الذين جمعوا أمرهم، وأصواتهم، وخطواتهم، فكانت ظواهرُ المواجهة مع الغرباء علاماتٍ بارقةً، في اليرموك، وعين جالوت، وحطين، ولم تبق من شواهد على غطرستهم ودمويتهم سوى ما ورثناه عن الأجداد من عزّة، وتلك القلاع التي شيّدوها ظناً منهم أنّها حاميةٌ لهم، تلك القلاع التي تعادل اليوم، في أهميتها، القوّة النووية.

 هذه الفاصلات التاريخية الثلاث هي مرايا عدوّنا اليوم الذي لم يعتقد، أو يؤمن، أو يقرّ، حتى هذه الساعة، أنّ وجوده،  في بلادنا الفلسطينية العزيزة، هو وجود قشري ليس إلا، وأنّ مآل  قوّته وقلاعه (أياً كانت أشكالها)، وقراراته الظلامية.. إلى زوال، ومآله هو الرحيل لأنّه عدو غريب، حتى الصخور، ورجوم الحجارة، وأجمات الشوك لا ترحّب به، ولا تؤاخيه، لأنّ الغريب غريب..!

هذه الفاصلات التاريخية الثلاث التي تبديها لنا كتب الرحلات هي الضوء الذي ينير قلوبنا، ودروبنا، وخطانا ، ونحن نمضي، رغم وجوه الفقد الكثيرة، نحو غايتنا الأجلّ: وطن عزيز بلا خوف، بلا غرباء!

المصدر: الحياة الجديدة