من وحي الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف 18 كانون الأول من كل عام، لأن الأمم المتحدة اعتمدت في مثل هذا التاريخ عام 1973 اللغة العربية كواحدة من لغاتها الرسمية، غُصْتُ في القراءة حول "العُجمة" في لغتنا، أي اللبس وعدم الوضوح واللحن الذي هو ليس من لغة العرب، أي الخطأ الذي يخالط الكلام، فيبعده عن الفصاحة والمعنى. ويُروى أن العُجمة ظهرت بعدما استقر الأمر للإسلام ودخلت فيه شعوب وقبائل، عرب وعجم. روى أبو الدرداء، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، سمع رجلاً قرأ فلَحَنْ، فقال فورا للناس "أرشدوا أخاكم فقد ضلَّ".
ظلّت العُجمة قضية كبرى وبسببها ظهرت المدارس النحوية، وأشهرها مدرسة البصرة، ومنافستها مدرسة الكوفة، وعندما كان يظهر خلاف بينهما، كان اللجوء للقبائل العربية، صاحبة اللسان السليم، هو الحَكَم. وفي قضية خلافية لغوية تناظر الكسائي الكوفي، وسيبويه البصري، في مجلس الخليفة هارون الرشيد وفي رواية أخرى مجلس وزيره البرمكي، فاختلفا حول الإعراب في مسائل عدة، ولحسم الخلاف تم استدعاء الأعراب، أصحاب اللسان الفصيح، فانتصروا للكسائي، وقيل يومها أنهم جاملوا الكسائي، المقرَّب من الخليفة، أو أن الكسائي قدم لهم رشوة، فغضب سيبويه، وغادر بغداد إلى بلاد فارس وبقي هناك حتى وفاته.
أتأمل أحوال إقليمنا الجغرافي السياسي، فأجد أن "العُجمة" فيه طاغية ومنتشرة. القضية الفلسطينية هي الأساس في الخلاف، والمدارس أي التحالفات فيه، تهددنا كما تهدد العُجمة لغتنا. الغموض واللبس وعدم وضوح المواقف والرؤى يربكنا. المشهد في فلسطين واضح: حقٌّ بيِّنٌ وشعب يتمسك به وينافح عنه، في مواجهةٍ مع وحشية احتلالٍ مغتصب يمارس كل أنواع البطش والقهر، يطلق جنوده وقطعان مستوطنيه لاستهداف الأرض والناس، بكل فئاتهم العمرية، قتلاً وترويعًا واعتقالات يومية، واعتداءات على حياة الفلسطينيين حيثما سكنوا، مدنا وقرى ومخيمات وبيوت شعر، أو في محابسه وسجونه، دون أدنى اعتبار للأخلاق أو القوانين أو المجتمع الدولي، ولا عُجمة في هذا المشهد، لكن في الإقليم، دول أعْجَمت، اختارت الابتعاد عن وضوح الحق ونصاعته، فتركت الحكم على المشهد الفلسطيني للأعاجم، أي الأغراب والأعداء، بينما الحكم في المشهد هو الشعب الفلسطيني، فصيح الكلام والنضال، وللشعوب العربية، حيث الأصالة والمعرفة والوعي، فلماذا تَعْجم هذه الدول، ولا تأخذ بحكم شعوبها، الانتصار للشعب الفلسطيني ومظلوميته. لقد ضلَّت.
للأسف، العُجمة السياسية خطيرة جدًا، بل قاتلة، وليس لها قواعد سوى المصلحة والانتهازية والتزلف للأجنبي والمحتل، بينما العجمة اللغوية، وضع لها أصحاب اللسان الصحيح قواعد ومعاجم، أمّا العُجمة السياسية، فإن الأعداء يضعون لها قواعدها ويرسمون لها خط سيرها: خدمة الاحتلال وتمكينه.

المصدر: الحياة الجديدة