لم ننكر يوماً حاجة الشعب الفلسطيني- سواء في غزة، أو الضفة- لما نطلق عليه دائماً "مقدرات البقاء"، وبرأيي فإن البقاء هو أقوى سلاح يمتلكه الفلسطينيون في مواجهة المشروع الصهيوني، الذي لا هدف له أهم من تفريغ أرضنا الفلسطينية منا، ما يعني ببساطة أن نقيض هذا المشروع يتمثل في البقاء، وحيث لا بقاء بلا مقدرات حقيقية، يصبح العمل على توفير هذه المقدرات عملاً وطنياً بامتياز، ونظن أن قليلاً من الفحص يظهر ببساطة أهمية، بل ومركزية هذا النوع من النضال، فكما نقول دائماً إن معركتنا مع إسرائيل ليست معركة تنجزها جولة مواجهة واحدة، ولا حتى بضع جولات في فترة زمنية محدودة، وهذا ما لا نحتاج إلى التدليل عليه، فيكفي أن نشير إلى أن عمر ما تسمى إسرائيل قد وصل الآن إلى أكثر من سبعة عقود، أضف إليها سنوات ما قبل إعلان الدولة، حينما كان الانتداب البريطاني يُجهز فلسطين للوافدين الجدد، وحتى يوم الناس هذا لا تزال كفة إسرائيل راجحة، حيث لا تساوي، ولا تقارب في موازين القوى بيننا وبين إسرائيل، لا في القوة الذاتية، ولا في قوة الحلفاء الحقيقيين.

باختصار: نحن نقدر قيمة توفير مقدرات البقاء أكبر تقدير، ونراها من أهم الأسلحة الممكنة في مواجهة الأهداف العليا للصهيونية، وهذا يعني- كما أشرت أعلاه- إلى أن العمل على توفير هذه المقدرات هو عمل وطني بامتياز، لكن شريطة أن تكون غايته الحقيقية هي المساهمة في تعزيز البقاء، وأن يتم ذلك من خلال خلق واقع فلسطيني قادر على أن يحيا بنفسه، وأن ينتج ما يكفيه بنفسه، لا أن يقتصر العمل على مساعدات موسمية، أو لحظية الاستهلاك، لا تترك كبير أثر على خلق البنية التحتية للبقاء، إنما مجرد مسكنات لحظية تبقينا عجزة إلا عن انتظار هذه المسكنات، بل ربما إلى متسولين ينتظرون حسنات بعض الجهات القادرة- لسبب أو لآخر- على جلب المال المسيس باسمنا كفلسطينيين، ثم القيام بتوزيع فتاته بطريقة مدروسة، ذات غايات استقطابية، وتنافسية داخل الساحة الفلسطينية.

لقد بدا واضحاً خلال حمى الحديث عن الانتخابات القادمة أن هناك من لا يمتلك برامج سياسية تحررية، ولم يضف جديداً، إلا بعض المساعدات البسيطة، التي لا تُذكر، فيما لو قورنت بحاجة الشعب الفلسطيني، ونفقاته الفعلية، لكنه يكاد يطالب الفلسطينيين بثمن هذه المساعدات.

وبرأيي: فإن هذه المساعدات لو كانت من الرصيد الخاص لمقدميها، ربما لوجدنا بعض مبرر لأن يتم مكافأة المنفقين، لكننا نعرف، ونعرف أن مقدميها يعرفون أننا نعرف أنهم ليسوا إلا ناقلين لهذا الأموال، بل وحتى عملية النقل لم تتم هكذا بالمجان، إنما أخذوا أجورهم على نقلها، وحينما وصلت خضعت لكل أشكال الواسطة، والمحسوبية، وقُدّم المقربون، وأُخّر غير المقربين، ومع ذلك لا يجد هؤلاء بأساً في تذكيرنا بأنهم ساعدونا، وأنه على ما يبدو قد آن الأوان لدفع الثمن..!

لا بد من تسجيل ملاحظة هنا، حتى لا يتوهم القارئ أن هناك بالفعل مساعدات حقيقية وصلت كل بيت فلسطيني، أبداً، فهي لم تطرق أبواب كل البيوت، إنما بيوت محدودة جداً، وفي أحسنها كانت مساعدات لمرة واحدة، لا تصل في أحسن الظروف إلى أقل من 50 دولارًا أميركيا، ما يعني أنها لا شيء على الحقيقة، لا تقدم، ولا تؤخر في حياة أي مواطن.

لكن الأهم بالنسبة لي، بل هو غايتي من هذه المقالة:

حينما تظن جهة أن الناس يمكن استمالتها ببعض ما يأتي في الأصل باسمها، فإننا أمام جهات ترى فينا سلعاً يمكن شراؤها، وبأبخس الأثمان، وفي الحقيقة فأنا لا أعرف كيف يمكن وصف سلوك كهذا، لكن رسالتي للمواطنين الفلسطينيين، إن كل من يطالب بصوتكم، لمجرد أن قدم لبعضكم فتاتاً هو في الأصل لكم، إنما لا يرى فيكم مواطنين جديرين بالاحترام، إنما مجرد كائنات يمكن شراؤها في الوقت المناسب، بل وكائنات غبية رخيصة الثمن، يمكن العبث باسمها دائماً، وعند الحاجة يمكن أن نلقي لها فتاتاً، سيكفيها، وستصفق لنا بسببه، فهل يرضى الفلسطينيون ذلك لأنفسهم؟

كلمة أخيرة:

نحن شعب لا يباع، ولا يُشترى، ومن يزعم أنه يريد خدمة شعبه فليخدمه بصمت، وإن جاء ليطالبنا بمقابل ما يلقيه لنا من فتاته، فسوف لن ننظر له إلا على كونه يتاجر بنا، وبآلامنا، ولا يحترم معاناتنا، ولا تضحياتنا، ولا يرى فينا شعباً حقيقياً محترماً، إنما مجرد أشياء تباع وتشترى، أو أرقام في سجلات الناخبين يمكن استمالتها بأبخس الأثمان.