خاص مجلة القدس /تحقيق منال خميس

فتح ميديا - لبنان

مشهد عميق لم يشهد الشارع الغزي مثله منذ زمن طويل، منظر الحافلات وهي تشق شوارع القطاع، تقل الأسرى المحررين الذين عانقوا فجر الحرية، بعد سنوات طويلة من عتمة السجون، وسط هتاف الأهالي والتلويح والورود والأغاني والفرحة والدموع التي تشارك فيها كل الفلسطينيين دون استثناء وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.

هؤلاء المحررّون الهاربون من عتمة الزنازين الانفرادية ولزوجة الموت البطيء، عانقوا أبناءهم وزوجاتهم وآباءهم وأمهاتهم في مشهد مؤثر، بعد إطلاق سراحهم، الآن في إطار صفقة "شاليط" التي لم تكن الأولى وبالتأكيد ليست الأخيرة. تلك العملية التي وصفها أحد المحللين السياسيين بـ"الغامضة" والتي أفرج بموجبها عن 1027 أسيرا فلسطينيا مقابل الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط" وسيتم التنفيذ على مرحلتين تمّت أولاها، في الثامن عشر من أكتوبر، فيما ستتم بعد شهرين، عملية إطلاق سراح 550 أسيراً فلسطينياً من السجون، ويُشار هنا إلى أن أربعين أسيراً تقرر إبعادهم، من ضمنهم أسيرتين، حيث سيتم إرسالهم إلى سوريا وقطر وتركيا ومن بين الأسرى المحررين في هذه المرحلة 279 محكوماً بالسجن مدى الحياة، و110 أسرى يطلق سراحهم إلى مدنهم في الضفة الغربية وشرق القدس، من بينهم 55 من حركة حماس، والبقية من حركة فتح ومنظمات فلسطينية أخرى.

وبموجب الصفقة فقد عاد 131 أسيراً من سكان قطاع غزة إلى القطاع، أما الأسرى الـ203 من الضفة الغربية، فأبعدوا إلى خارجها، ويتوزعون بين 40 أسيراً إلى خارج فلسطين، والباقي إلى قطاع غزة، على أن يسمح لـ18 أسيراً من بينهم بالعودة إلى الضفة الغربية بعد عام واحد، فيما يسمح لـ18 أسيراً آخرين بالعودة أيضاً، بعد مرور ثلاث سنوات.

وكان الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط قد  اختطف من قبل مجموعة مسلحين في عملية أسمتها المقاومة الفلسطينية "الوهم المتبدد" بتاريخ  25 يونيو 2006.

ويرى الكاتب والمحلل السياسي سامي الأخرس أن هذه  الصفقة لم يكن من الممكن أن تتحقق دون تنازلات متبادلة من قبل الجانبين، حماس وإسرائيل، كما أن لكل من حماس وإسرائيل أسبابهما ومبرراتهما لإنهاء هذه الصفقة، فحماس كانت بحاجة إلى إنجاز ما في أعقاب توجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس للأمم المتحدة وخطابه التاريخي في الجمعية العمومية والذي رفع شعبيته إلى أعلى المستويات مقابل تراجع شعبية حماس وهذا كان له دور في تراجع الحركة عن مطالبها السابقة، وموافقتها على إبعاد (203) من الأسرى بعد رفضها السابق له، كما تخلت عن مطلبها بالإفراج عن عدد من القيادات الحمساوية وغير الحمساوية دون أي تبرير سوى الإذعان للرفض الإسرائيلي.

وشدد الأخرس للـ"قدس" على أن الصفقة وعلى الرغم من أهميتها، الا أنها لم تكن على المستوى المأمول منها ولم تأت بحجم التضحيات التي قدمها شعبنا من أجل الحفاظ على الجندي الإسرائيلي "شاليط"من حيث الكم أي عدد الأسرى، ومن حيث النوع أي المفرج عنهم، ومن حيث بنودها إذ يشوبها عشرات علامات الاستفهام والتعجب خاصة وأنها تأتي بعد ما يقارب من خمس سنوات من إصرار حركة حماس على الشروط الخاصة بالإفراج عن كل الأسرى الذين أمضوا أكثر من عشرين عاما والمحكومين بالمؤبدات، وأسرى الداخل 1948 والقدس بما أن إسرائيل تتحفظ عليهم باعتبارهم مواطنين إسرائيليين في حين انهم جزء من ثورتنا بل وجزء أصيل واقل واجب التمسك بالإفراج عنهم، ومن ثم تجاهل أسيرات الداخل سنة 1948 كذلك وتبرير حماس بأن أسماءهن سقطت سهوا. أضف لذلك الموافقة على إبعاد 110 أسير إلى غزة والخارج وهذا البند يعتبر ثغرة خطيرة جدا بالسماح لإسرائيل بممارسة إبعادها لأبناء شعبنا بإرادتنا أي إبعاد طوعي وهو يخالف ويناقض حق العودة الذي نقاتل لأجله، وهو خطيئة كبرى وليس خطأ يمكن غفرانه. كما والأهم عدم الإفراج عن قياداتنا الأسيرة الممثلة بقيادات الصف الأول وعلى رأسهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات، خاصة لما يتمتع به هذان القائدان من شعبية عامة بغض النظر عن الحزبية.

ومن جانبه عزا البروفيسور أسامة أبو نحل أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر تسرع حماس وإسرائيل في إتمام الصفقة، ونجاح الوساطة المصرية في انجازها بوقت قياسي ، الى المتغيرات التي تجري بالمنطقة بوتيرة غير معهودة.

وقال أبو نحل للـ"قدس"ان انتهاء حقبة مبارك الذهبية بالنسبة لإسرائيل، وقرب انتهاء الفترة الانتقالية للمجلس العسكري الحاكم في مصر وهو قريب من سياسة مبارك، دفع الجميع وعلى رأسهم الحكومة الإسرائيلية للتفكير بالاستفادة مما تبقى من فترة حكم ذلك المجلس العسكري؛ فالمستقبل لم يعد مضموناً بالنسبة للإسرائيليين، والتداعيات في المنطقة باتت أقوى من أي مخططات مستقبلية، والرئيس المصري القادم قد تكون سياسته مناوئة للسلام بين مصر وإسرائيل. ولو فرضنا بأن الرئيس القادم سيكون من أنصار السلام بين الدولتين، لكن الحكومة التي سيتم تشكيلها من حزب الأغلبية، وقد يكون لها رأيٌ آخر ومعارض لاستمرار عملية السلام؛ فهنا لن يكون للرئيس القول الفصل. لذلك فإسرائيل تخشى من تغيّر دراماتيكي في الساحة المصرية قد ينعكس سلباً على عملية المفاوضات حول شاليط".

وتابع أبو نحل: "بالنسبة لحماس فمنذ انتهاء عهد مبارك ثمة متغيّرات ايجابية نشأت في العلاقة بين حماس والمجلس العسكري، وإن جاز لنا القول فإن ثمة غزلاً صريحاً يجري بين الطرفين؛ فذلك المجلس وبدون مقدمات نجح في عقد لقاء المصالحة بين حركتي فتح وحماس وإن كان تصالحاً صورياً عدمياً. ومنذ شهور قليلة كان هناك تصعيد إسرائيلي ضد غزة وتهديد بشن حرب عليها، ثمَّ تواترت الأنباء حول إنذار مصري لإسرائيل من مغبة شن هجوم على غزة. وأخيراً كانت صفقة شاليط بدون مقدمات سابقة عن إنجازها".

وزاد الأخرس على ما سبق من حديث د.أبو نحل بأن نجاح المجلس العسكري المصري بعقد لقاء على مستوى عال والأول من نوعه بين قائد جهاز القسام العسكري والمفوض الإسرائيلي "كوهين" بشأن الصفقة يعبر عن تحول خطير في منطق حماس ولقاءاتها المباشرة وجها لوجه مع قادة الكيان الصهيوني، لافتاً إلى بعض المحددات التي فرضتها إسرائيل على الصفقة ومن أخطرها أنها  لم تعط مسؤولي حماس أي تعهّد بأنها لن تمسّهم بعد تحريرهم، كما أن نصف المحررين إلى الضفة الغربية، أي حوالي خمسين أسيراً، سيكونون تحت قيود أمنية مشددة، ويمنع عليهم الخروج من المدن حيث يسكنون.

وقال الأخرس للـ"قدس" ان حماس تسرعت في عقد صفقة لها ثغراتها ونواقصها، لإدراكها ان سيطرتها الزمنية على غزة قد انتهت، حيث فقدت الجزء الأعظم من شعبيتها، وبناء على ذلك فقد سعت الى تحويل مسار البوصلة باتجاهها.

ويلوم الأخرس حركة حماس على أنها لم تسلم الأمر(الصفقة) لأصحابه الشرعيين ألا وهم الحركة الأسيرة على غرار صفقة سنة 1985 التي قاد التفاوض فيها ألأسرى لأنهم الأكثر دراية بأوضاعهم وبظروفهم، فأهل مكة أدرى بشعابها، فلا أحد يستطيع أن يشعر بألم المتألم سواه، ولكن حماس أرادتها صفقة تضرب بها أبو مازن الذي أضاء العالم بخطابه في الأمم المتحدة بصفقة تتخذ الملمح الانتصاري الإعلامي.

أما د.أبو نحل فيرى أن حماس حققت عدة مكاسب من الصفقة، أولها ارتفاع شعبيتها من جديد في الشارع الفلسطيني. وثانيها ما تناقلته وسائل الإعلام من أن نتنياهو قد وافق على رفع الحصار عن غزة في إطار صفقة شاليط، فذلك يعد مكسباً مهماً لحماس سوف يمنحها القدرة على الاتصال بالخارج دون موانع، بالإضافة إلى ما تناقلته وسائل الإعلام أيضاً عن بدء تطوير معبر رفح، فإن صحَّ ذلك الخبر فهذا يعني بأن مرحلة جديدة في التعامل ما بين غزة وحكومتها من ناحية وبين القاهرة من ناحيةٍ أخرى قد وصلت إلى مرحلة متقدمة، ما يعني بأن مرحلة حصار غزة قد ولّت رسمياً.

ويخشى أبو نحل أنه مع نجاح صفقة شاليط وفي حال فشل المشروع الفلسطيني للسلطة الفلسطينية حول كسب مسألة العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، فإن ذلك يعني نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى، مرحلة سوف تؤدّي إلى أفول السلطة الفلسطينية نهائياً شاءت القيادة الفلسطينية أم أبت؛ فالعالم لا يعترف بالضعفاء وإنما يتعامل مع الأقوياء فقط. 

وفي السياق فقد نقل عن مصدر امني كبير في تل أبيب قوله ان المرحلة الثانية من صفقة التبادل لن تشمل نشطاء 'تلطخت أيديهم بالدماء'، على حسب وصفه.

وأوضح ان النية تتجه إلى الإفراج عن سجناء فلسطينيين أدينوا بارتكاب أعمال جنائية كسرقة السيارات والمنازل والذين ضبطوا في إسرائيل دون أن تكون بحوزتهم التصاريح اللازمة.

وأكدت حماس على لسان أحد ناطقيها أبو عبيدة أنها لن تشارك في وضع أسماء المعتقلين الذين سيتم الإفراج عنهم، في المرحلة الثانية بحسب الاتفاق، لكنه قال ان مصر ستشارك في وضع هذه الأسماء.

وبرغم الانتقادات الكثيرة للصفقة الا أن الفرحة لم تغادر بيوت الأسرى المحررين، ومن بينهم عميد الأسرى سليم علي الكيالي التي استقبلتنا والدته البالغة 95 عاما، بالدعاء ودموع الفرح والقبلات. وقالت والدة الكيالي للـ"قدس" كنت أنتظره بفارغ الصبر، ولا أصدق حتى هذه اللحظة أن عيني ستكتحل برؤياه".

أما الأسير المحرر سليم الكيالي الذي أمضى في سجون الاحتلال 29 عاما، قال للـ "قدس" ان تحريرهم عرس للشعب الفلسطيني كله، داعياً الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية وقيادة كل التنظيمات للعمل على الإفراج عن كافة الأسرى في سجون الاحتلال.

وأضاف: "هناك أسرى امضوا أكثر من عشرين عاماً في السجون ولكنهم لم يخرجوا وكنا نأمل في إطار الصفقة أن يتم الافراج عنهم، وهذا ما يفسد علينا فرحتنا".

وطفرت الدموع من عينيه وهو يقول "إننا تركنا خلفنا أسوداً صامدين في زنازين الجلاد وما زالوا مضربين عن الطعام حتى نيل مطالبهم العادلة.. وبإذن الله النصر قريب"، لافتا الى أنه كان لكل واحد من الأسرى نصيب من المعاناة داخل السجون الإسرائيلية أبرزها حرمانهم من زيارة ذويهم داخل السجون، مؤكداً أنه غير نادم على سنوات الأسر التي قضاها من أجل نيل الحقوق الفلسطينية.

وسليم الكيالي من مواليد مدينة غزه عام 1952 التحق في صفوف حركة فتح في بداية السبعينات اعتقل عام 1976 وحكم عليه بالسجن الفعلي لمدة ثلاث سنوات ثم عاد وشكل مجموعة مقاتلة شاركت بقتل عدد من الجنود الإسرائيليين وتم اعتقاله يوم 30/5/1983 وحكم عليه بالسجن المؤبد هو وأفراد مجموعته.