لم تزل مشكلة انتقال السلطة مثار جدل في الولايات المتحدة الأميركية، فقد كرر ترامب تصريحاته وتغريداته عن وجود تزوير كبير وغياب الشفافية في الانتخابات الرئاسية التي جرت أوائل الشهر الجاري. وقام محاموه برفع العديد من القضايا أمام محاكم الولايات من أجل إعادة فرز الأصوات. وتهدف هذه الدعاوى بشكل واضح إلى تعطيل الإعلان النهائي والرسمي لفوز منافسه الديمقراطي بايدن. ومؤخرا، ألمح ترامب من خلال بعض الخطوات السياسية والتغريدات إلى عدم رغبته في تسليم السلطة لانه لا يعترف بنتائج الانتخابات، وقد عبر عن هذه النوايا عندما طلب من الوكالات الفيدرالية المضي قدمًا في إعداد الموازنات الخاصة بها، وهو الإجراء الذي يجب على فريق بايدن الانتقالي القيام به بنفسه. كما يبدو إعلان بومبيو وزير الخارجية الأميركية عن ترتيبات انتقال السلطة في وزارة الخارجية إلى الإدارة الجديدة وهي التي ستكون حتمًا ادارة ترامب تحد صريح وواضح للاسس الديمقراطية التي أنشئت بموجبها الولايات المتحدة في توافق الأباء المؤسسين عليها قبل أكثر من ثلاثة قرون.

ووفقًا لشبكة (CNN)، فان مقربين من الرئيس الأميركي المهزوم ترامب أشاروا إلى أنه قد يفكر بإعادة ترشحه للانتخابات القادمة عام 2024، وأنه بدأ يشعر بخسارته للانتخابات، إلا أنه وبرغم هذه التسريبات، فان المشهد السياسي في الولايات المتحدة بشكل عام يشير إلى احتمالية متصاعدة لانتقال النظام السياسي إلى حالة من الفوضى والجمود؛ وخاصة في ظل عدم تناول الدستور الأميركي لموضوعة رفض الرئيس تسليم السلطة بعد الانتخابات. ويزيد من تعقد هذا المشهد وغموضه إصرار ترامب على عدم تسليم السلطة إلى بايدن الذي فاز بالانتخابات الرئاسية في غالبية الولايات، وتجاوز الرقم السحري للفوز في الانتخابات بأريحية كبيرة لا يمكن لترامب أن يتجاوزه حتى لو فاز بأصوات كل الولايات المتبقية التي لم تعلن نتائجها بعد.

الجميع في الولايات المتحدة المتحدة يدرك أن ترامب يتلكأ في تسليم السلطة إلى الفريق الانتقالي الذي شكله بايدن. وتؤكد صحيفة "واشنطن بوست" أن تقارير غالبية الخبراء تشير الى أنه حتى لو صحت دعاوى ترامب في الولايات بحدوث تزوير في بعض الأصوات، فإن هذه الأصوات لن يكون بمقدارها تغيير النتائج، بسبب الفارق الكبير في الاصوات لصالح بايدن. ومع ذلك، يصر ترامب على مقولته بتزوير الانتخابات وعدم رغبته بتسليم السلطة نتيجة لهذا التزوير.

في الواقع يدرك ترامب أنه لا يستطيع إلا أن يسلم السلطة إلى بايدن، فالولايات المتحدة دولة عميقة، والديمقراطية فيها عملية راسخة ليس فقط في الممارسة وإنما أيضًا في ثقافة الجمهور. كما أن عدم تسليم السلطة يعتبر جريمة فيدرالية تصل في درجتها الى جريمة الخيانة العظمى، وهو الأمر الذي يعرضه إلى مساءلة قانونية من قبل مجلس الشيوخ ومحكمة العدل العليا في حال استمراره بالسلطة. وبرغم ذلك، فان ترامب يبالغ في تصريحاته العدائية، ولا يمكن فهم هذه التصريحات إلا إذا فهمنا طبيعة الشعبوية اليمينية التي يقودها الاخير في الولايات المتحدة. فالشعبوية التي ترفض تمثيل النخب، وتتسم بالتبسيط الشديد لقضايا المجتمع من خلال خطاب كاريزمي يتلاعب بعواطف الناس وأفكارهم لغايات سياسية تمكنهم من تمثيل المواطنين العاديين البسطاء، تجد نفسها دائمًا في مواجهة السلطة الحاكمة وفي معارضة حقيقية للعملية الديمقراطية والسياسات النيوليبرالية التي تصطفي النخب من دون تأييد حقيقي لها من قبل الجمهور. ويؤكد ذلك فيرنر مولر في كتابه الصادر عام 2016 حول الشعبوية قائلاً إنه "في إمكان الشعبوية أن تُعبر عن مضامين مختلفة، ومن الخطأ فهمها على أنها تعبير عن مرحلة اجتماعية أو سياسية وتاريخية ما". وبالضرورة، فكأنما نشير في هذا السياق إلى أن انتقادات ترامب لنتائج الانتخابات ما هي إلا انعكاس لانتقال ترامب من خانة النخبة السياسية إلى خانة المعارضة الشعبوية، وهذا لا يشير إلى رفض تسليم السلطة، وإنما إلى رفض السلطة بحد ذاتها، لأنها سلطة لا تقوم على رغبة الجمهور وتطلعاته حسب منظري الشعبوية. وفي السياق، فإن هذا الفهم الدقيق لتصريحات ترامب للتشكيك في العملية الانتخابية يشير في خباياه إلى قبول ضمني للاخير بأن السلطة لم تعد بيده الأن، ولكنه بالمقابل سيتحول إلى خندق المعارضة، وهنا لا أقصد المعارضة الجمهورية الكلاسيكية في المؤسسات العامة، وانما تتجاوزها لتصبح معارضة شعبوية تتوسع إلى كافة القواعد الشعبية والمدنية. في هذا الإطار، حدد هاشم الخالدي السياق الايديولوجي الذي تتخذه الشعبوية في تعاملها مع النظام السياسي باعتبارها أيديولوجية ترفض التعددية، وتقوم على معارضة النظام والمؤسسات، وتعمد الى تأجيج الخطاب السياسي وتهويله، وتسعى أخيرًا إلى معادات النخبة السياسية. 

ومن هنا، فاننا نجد بسهولة أن جميع هذه الملامح النظرية التي حددها الخالدي تتوفر في خطابات ترامب بعد فشله في الانتخابات، وهي بالمحصلة توضح لنا أن الترامبية انتقلت من مرحلة الحكم الى مرحلة المعارضة خارج البيت الابيض، أو الى مرحلة الصراع كما توضح المفكرة الفرنسية شانتال موف في تعريفها لفكرة الشعبوية.

وفي الختام، أعتقد أن ترامب في تشكيكه بنتائج الانتخابات وفي تلكؤه بتسليم السلطة لا يشير الى رفضه تسليم السلطة كما تتوقع وكالات الأنباء العالمية، وانما تشير إلى رغبة ترامب في الحفاظ على المخزون الايديولوجي للترامبية الشعبوية واستمرار افكاره السياسية لدى ناخبيه ولدى مؤسسات الحزب الجمهوري، بحيث تستطيع هذه الافكار أن تتجدد في الممارسة السياسية وتصبح مكونا هاما من مكونات الثقافة السياسية في الولايات المتحدة. ان مثل هذا التجدد سيزيد من فرص ترشح ترامب أو أحد حاملي هذا التيار الشعبوي في الانتخابات القادمة من جهة، كما أنه من جانب آخر، يحول صورة ترامب في العقلية السياسية الأميركية الى صورة "البطل التاريخي الشعبي" الذي تآمرت عليه الدولة الأميركية ومؤسساتها، وزورت الانتخابات من أجل افشاله في تحقيق "الحلم الأميركي"، وهذه الصورة المنمقة تعتبر من أهم أهداف ترامب الشعبوي ليظل رمزا من رموز التاريخ الأميركي المعاصر.