المجد والسلام لروح المناضل الفلسطيني الكبير الدكتور صائب عريقات، الذي كان رمزاً من رموز الاشتباك الفلسطيني الواسع والشجاع، اشتباك واسع لأنه يتعلق بكل مفردات قضيتنا الفلسطينية التي تحتاج وحدها إلى دائرة معارف خاصة بها، ابتداء من حقائقها الأولى الخالدة مثل تعميم المعرفة والاعتراف بأن هذا الشعب الفلسطيني الحي يعيش في ذاكرته، والمدهش بقوة الانتماء لوطنه فلسطين الذي يعيش فيه منذ أكثر من ستة آلاف سنة، حيث يقول المؤرخ الإنجليزي "جيه أتش ويلز" إن فلسطين –الصغيرة في مساحتها– هي أول أرض أشرق عليها التاريخ الإنساني، وأول العلامات الدالة على هذه الحقيقة الخالدة، أن فلسطين الصغيرة المساحة أشرقت منها وفيها البشارات الكبرى الثلاث، اليهودية، والمسيحية ، والإسلامية، وكل واحدة من هذه البشارات الثلاث، تجسد وجودها بمعجزة، فمحمد صلى الله عليه وسلم نبي الإسلام أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من القدس إلى السماء السابعة وإلى سدرة المنتهى حيث أصبح قاب قوسين أو أدنى، ورأى من آيات ربه ما رأى.

ومنذ عقود طويلة، في بدايات محادثاتنا مع أميركا، التقى وزير الخارجية الأميركي "جيمس بيكر الثالث" مع عدد من الفلسطينيين سواء في فندق الأميركان كولني، أو في بيت الشرق ثم بعد ذلك في واشنطن نفسها، وهؤلاء الذين التقى بهم أصبحوا يعرفون فيما بعد باسم "الوفد الفلسطيني" رحل بعضهم مثل الدكتور حيدر عبد الشافي، وفيصل الحسيني، وعلى رأسهم د.صائب عريقات، عندما نشرت شاشات الأخبار في العالم صورته في أميركا وهو يتوشح ويلف حول رقبته كوفية ياسر عرفات، الكوفية الفلسطينية التي أصبحت رمزاً للفدائي الفلسطيني ورمزاً لزمن الاشتباك الذي ظل صائب عريقات واحداً من رموزه، فكل مفردة من المفردات الفلسطينية هي بحد ذاتها اشتباك هائل، ولم يكن الاشتباك قد حدث للتو، بل هو الاشتباك المؤسس لأقدم قضايا البشرية، وهي القضية الفلسطينية التي قاتل الشعب الفلسطيني بضراوة من أجلها في معارك سياسية وتنظيمية وعسكرية خارقة منذ أكثر من قرن من الزمان، منذ عهد بلفور عليه اللعنة إلى عهد ترامب الذي توقعت له أن يجري بينه وبين نفسه وحزبه الجمهوري الذي ظهر بمظهر الخواء الكامل، أن يجري بينه وبين نفسه اختيار مر، الذهاب والاعتراف بالسقوط أم الذهاب إلى الانتحار.

صائب عريقات، وسع ثقافته، واشتباكه إلى أقصى مدى ممكن، فكل مفردة من مفردات قضيتنا هي ميدان واسع للاشتباك، هستيريا الاستيطان، الروايات الصهيونية الكاذبة، هذه النوعية من المخلوقات الهابطة إنسانياً وهم المستوطنون الذين احتلوا بيوتاً فلسطينية في عكا وحيفا ويافا كان أصحابها قد جهزوا وجبة الغداء، ولكن المستوطنين، وهم جيش يجند نفسه، أقنعوا أنفسهم بأنهم كانوا هنا، بل إنهم يقولون "نحن لسنا محتلين، بل نحن عائدون إلى وطننا الذي وعدنا به الرب، ولم نغب عنه سوى ألفي سنة"!!! وكانت كل واحدة من هذه التفاصيل موثقة بالكامل عند صائب عريقات، في سجل فلسطين الذي يشمل الوقائع جميعاً، ابتداء من الاتفاقات التي خانها الإسرائيليون إلى الانزلاقات المجانية التي وقع فيها بعض أشقائنا العرب الذين استقالوا من عروبتهم ومن إسلامهم هكذا بلا سبب سوى أن بعضهم يقول إن الخيانة مغرية ولذيذة، يا ويلهم ماذا سيفعلون حين يعلن ترامب هزيمته، يأخذ أغراضه من البيت الأبيض، إلى أين يهربون بعد أن فقدوا شرفهم بالمجان.

الحديث عن صائب عريقات يطول، إنه فارس فلسطيني من زمن الاشتباك، وإنه فتى فلسطيني من فتيان الانتفاضة، وإنه قوة تفاؤل بسيطة ومدهشة يشعرك حين تتحدث معه أن ثوابتنا الفلسطينية هي ثوابت الله، وحماية الله يا صائب عريقات، وإن ذكراك لن تغيب.