سمعت للمرة الأولى بالفقيد د. صائب عريقات عندما كان يدرس بجامعة النجاح، هذا في نهاية الثمانينيات، إلا أنه لفت نظري ونظر الجميع عندما أصر في افتتاح مؤتمر مدريد في خريف عام 1991, على رمزية الهوية الوطنية ولبس الكوفية الفلسطينية، عندما رفضت إسرائيل أن تتمثل منظمة التحرير في هذا المؤتمر. ومنذ ذلك التاريخ أصبح اسم عريقات يتردد يوميًا في وسائل الاعلام كعضو فاعل في الوفد المفاوض إلى أن أصبح كبير المفاوضين.

البعض كان يرى أنه متحمس وعاطفي ومندفع في مواقفه وتصريحاته، ولكن كل ذلك لأنه كان وطنيًا ملتزمًا، وهو كذلك لأنه يريد أن يحقق إنجازًا أو أن يدافع عن شعبه وقضيته الوطنية، التي كان يراها عادلة إلى درجة يمنع معها النقاش في ثوابتها وأساسها القانوني. أنه حالة استثنائية من زاوية الذاكرة، وما راكم فيها من معلومات وتفاصيل كانت متسلسلة بشكل منهجي، وعندما يحتاجها كان يجدها بسهولة، ومرة أخرى لكونه إنسانًا وطنيًا ملتزمًا ولا يريد إلا إثبات شيء وحيد هو حقوق الشعب الفلسطيني وما وقع عليه من ظلم فظيع.

ومنذ أن سمعت عنه أول مرة وحتى التصريح الآخير، كان يتحدث بنفس الوضوح والحماس، يراقب كل التحركات والمواقف، ولم يكن يترك لا شاردة ولا واردة يمكن أن تمس القضية الفلسطينية إلا ورد عليها، ويتصرف أنه هو من يدافع عنها ويحرسها ويحميها، ومن نبرة حديثه تشعر بوطنيته، والتزامه الذي لم يهتز يوما. وفي كل محطات المفاوضات، بدءًا من مدريد، ومرورا باوسلو وقمة كامب ديفيد، كان سندًا قويًا لياسر عرفات في المواقف الصلبة، يمكن أن يناور ويلف ويدور، لكنه في لحظات الحسم لم تخنه مرة مواقفه، فالثوابت والحقوق الوطنية هي المحرك الأساسي له.

وعندما تنصت اليه وهو يحادثك، تدرك أنه نسج مواقفه عبر الربط المحكم بين القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وهذه الأخيرة كان يحفظها كلها عن ظهر قلب، وبين الثوابت الوطنية الفلسطينية. لقد كان مثل جهاز التيرموميتر يتحرك فورًا إذا ما حاول أحد المس بالشعب الفلسطيني، ويكون جاهزًا لكل الاحتمالات ولديه كل الردود، فهذه صفة الملتزم وطنيا.

وحسب تصنيف الأعداء له، فإنه كان المفاوض الأكثر تنظيمًا في ملفاته، وكان من السهل التعاطي معه، وبالمقابل لم يكن من السهل الحصول منه على أي تنازل. وحسب الأصدقاء فقد كان عريقات العنوان أما للحصول منه على الموقف الفلسطيني، أو بهدف إيصال الرسائل للشعب الفلسطيني، وقد بات معروفًا لدى السياسيين والدبلوماسيين أو حتى  الإعلاميين على مستوى العالم، لذلك تناولت كل وسائل الإعلام مسألة رحيله التراجيدي المبكر عن ساحة العمل السياسي.

لقد كان صائب عريقات جزءًا مهما من ذاكرتنا الفردية والجماعية، وعلى امتداد عقود يناضل في الميدان، ويعمل على تعزيز الوعي الوطني، ومن ثم يفاوض ويصبح كبير المفاوضين، وهو لقب استحقه بجدارة الانسان الوطني الصلب والملتزم بقضية شعبه. ومن منا لا يحتفظ بشيء من مدوناته وملخصانه وتقاريره حول محطات تفاوضية أو مواقف كان لا بد من الرد عليها.

وداعًا يا صائب لقد كنت نموذجًا للوطنية الفلسطينية، التي لم تنكسر إرادتها يوما .. يا من كنت صديقًا لكل أبناء شعبك، قريبًا منهم وقريبين منك.. وداعًا يا صائب وأنت الصواب.