بداية لا بد من التأكيد أنه لا فاصل بين الثقافة والسياسة، كل منهما تتأثر بالأخرى، سلباً أو إيجاباً. للسياسيين برامجهم، وللمثقفين دورهم في التعبير عن نبض الناس، وتكريس المُثل الأخلاقية وحماية الهوية الوطنية وتحصين الوعي ضد الاختراق بشوائب تتناقض مع مصالح الأمم والشعوب.

للمثقفين ونقاباتهم واتحاداتهم وجمعياتهم مواقف مغايرة ومختلفة وأحيانا كثيرة مقاوِمة لسياسات قيادات دولهم السياسية، باستثناءات قليلة ترتبط غالبا بمصالح ذاتية أو مالية.

وأعني بالمثقفين هنا كل العاملين في الصناعات الثقافية وخاصة في الإعلام والنشر. ولِما لهؤلاء من تأثير كبير على تكوين الرأي العام، أنفقت الدول مبالغ هائلة ليكون لها منهم أتباعٌ ومروِّجون لسياساتها، وخصَّصت ميزانيات ضخمة جداً لتكون صاحبة ريادة في تقرير مواقف إقليمية ودولية من خلال الثقافة، خاصة عندما تراجعت دول المركز ومثقفوها عن موقع القيادة والريادة بسبب ظروف قاهرة تحتاج فيها إلى المال... والمال سلاح خطير جداً، فإذا اقترن بقوة التأثير الثقافي للمجنّدين من الكتَّاب والاعلاميين، تضيع البوصلة، ويُصبح القرار لمن يملك المال وليس الحق.

تظل قضية التطبيع مع العدو الصهيوني جوهرية بالنسبة للمثقفين والنقابات والجمعيات والاتحادات، فكان لقرارات هذه المؤسسات دور مؤثِّر في كبح جماح السياسيين وتعديل مسارهم في كثير من الحالات، حتى جعلت السلام المنصوص عليه في كامب ديفيد ووادي عربة باردا كالثلج، حتى أن الزائر الإسرائيلي لمصر أو الأردن لا يتجوَّل بحرية في أيٍّ من البلدين، بل أكثر من ذلك، يُخفي هويته، وحوادث طرد الإسرائيليين من المرافق العامة في البلدين كثيرة جدا. أما في فلسطين، فلم يجرؤ أحد من المثقفين على الخروج عن مواقف اتحاداتهم رغم وجودهم تحت الاحتلال، فظلَّت اتفاقية أوسلو فقط عنوانًا للصراع والقهر والعدوان والاحتلال، وعلاقة ليس فيها سوى الصراع على طريق تحقيق دحر الاحتلال ونيل الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير واقامة دولته المستقلة.

في العقد الأخير، أنفقت دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر أموالاً طائلة على مشاريع ثقافية ريادية وهدفها المعلن دعم الثقافة العربية ومكوِّناتها وقضاياها الأساسية. اندفع الكثيرون من المثقفين للتفاعل والمشاركة في فعالياتها وجوائزها لإيمانهم بهذا الدور المنشود من جهة والاستفادة من العائد المالي، بينما حافظ الكثيرون على المسافة المطلوبة، وهي عدم التورط في فعالية تخالطها شبهة التطبيع.

أربك الإعلان عن اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل المشهد الثقافي العربي لارتباط مئات إن لم يكن آلاف من العاملين في الصناعات الثقافية العربية بالمشاريع الثقافية الإماراتية، فهؤلاء لهم مواقف معلن عنها ضد التطبيع، ويوجد في قوانين اتحاداتهم وجمعياتهم وروابطهم الأساسية نصوص واضحة ضد التطبيع صادقت عليها اجتماعاتهم وكرَّرت تأكيدها في كل الاجتماعات وخاصة تلك التي كان فيها انتخابات.

على سبيل المثال، في نص القانون الأساس لاتحاد الناشرين العرب البند عشرين من الأهداف ما يلي: "مقاومة جميع أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، والوقوف ضد كافة أشكال التعاون معه". وأكدت الجمعية العمومية للاتحاد في كل اجتماعاتها على رفض التطبيع ومحاسبة أي ناشر يقيم علاقة مع "إسرائيل" على أي مستوى، ما يضع قيودًا على المشاركة في أيِّ معرض كتاب مقبل فيه شبهة مشاركة إسرائيلية تحت أي مُسَمّى. وكذلك الأمر في كل النشاطات الأخرى التي لها علاقة بالثقافة، لذلك سارع الكثيرون من الكتاب والمؤلفين الى الانسحاب من الترشيح للجوائز أو لجان التحكيم أو المجالس ذات العلاقة حتى الآن بالبوكر العربية وجائزة الشيخ زايد، مع ملاحظة عدم التعرّض لأي نشاط في بقية الإمارات. ويحافظ المثقفون على مواقف رصينة دون الإساءة للأشخاص أو لشعب الإمارات، فهم يرفضون التطبيع ويثقون بالروابط التاريخية والثقافية التي لن تنقطع عُراها وسيكون لها القول الفصل في نهاية المطاف.

لغالبية المثقفين العرب مواقف أصيلة ضد التطبيع، رغم ما قد يتعرضون له من مضايقات من المستوى السياسي والذباب الإلكتروني شديد الحضور، لكنهم ضمير الأمة.