الإنحناء أو المناورة أو التراخي أمام صفقة القرن كان من شأنه أن يقود إلى تدمير المشروع الوطني الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية برمتها، إذ أنه وبالنظر للظروف الدولية والإقليمية وخارطة العلاقات الدولية التي خضعت في كثير من الأحيان لسياسة البلطجة الأميركية الإسرائيلية لا سيّما فيما يتعلق بمنطقتنا العربية، وبالنظر إلى الواقع الفلسطيني الذي يتحكم الاحتلال في كل تفاصيله، واختلال ميزان القوى على جميع الصعد لصالحه بفارق كبير، وما تشهده الساحة الداخلية من انقسام يمول ويغذي بقاءه ويحافظ على ديمومته الاحتلال الاسرائيلي ومن يتقاطع مع سياسته هذه محليًا واقليميًا (محور جماعة الاخوان المسلمين)، فإن صفقة القرن كانت بمثابة كارثة سياسية استثنائية على وجود ومستقبل الشعب الفلسطيني، وبالتالي فإن التعامل معها تطلب مواقف وإجراءات وقرارات استثنائية يحكمها ويوجه بوصلتها قوة الحق والمنطق، تجمع ما بين الجرأة والحسم من جهة والحكمة والدهاء السياسي من جهة أخرى، وهو ما تضمنته الرؤية والإستراتيجية التي وضعها الرئيس أبو مازن.
لم ينتظر الرئيس أبو مازن الإعلان النهائي لصفقة القرن، حيث باتت ملامحها واضحة من خلال قرارات وإجراءات الإدارة الأميركية بشأن القدس واللاجئين، فأعلن بشكل واضح وحاسم وقاطع لا يقبل التأويل رفضه لهذه الصفقة جملةً وتفصيلاً، وكانت "لا" كبيرة ومدوية اعتبرها البعض ضربًا من ضروب المغامرة والانتحار السياسي بل وصفها البعض بالجنون، واعتبر الكثيرون أن الرئيس أبو مازن تسرع برفض الصفقة قبل الاعلان عنها رسميًا، واستهجن واستكثر البعض وقلق وخشي البعض الآخر على الرئيس أبو مازن من تبعات موقفه هذا، متسائلين عن مقومات القوة التي يراهن عليها. ولكنها لم تكن "لا" عدمية، حيث وعندما حانت لحظة الحقيقة وتم الإعلان عن بنود الصفقة، تسلح الرئيس أبو مازن بمؤسسات الدولة وبدعم جماهيري وشعبي وذهب الى المجتمع الدولى حاملا رؤية بديلة تستند إلى قوة الحق والمنطق ومتسلحا بتأييد عربي وإسلامي وإفريقي راهن على تحقيقه فأفشل محاولات شرعنتها دوليًا، ورويدًا رويدًا بدأت دائرة الرفض والتحفظ على هذه الصفقة تتسع تدريجيا، وانطفأت شعلتها وباتت حبيسة الأدراج في مكاتب صانعيها وإن كان إلى حين.
الكارثة البيئية "وباء الكورونا" وعلى المستوى الفلسطيني تتقاطع وتتشابه إلى حدٍ كبير في ظروفها وبعض خصائصها مع الكارثة السياسية "صفقة القرن"، إذ أن مستوى خطورة الوباء وسرعة انتشاره بالمقارنة مع الامكانيات المتواضعة لمؤسسات السلطة الوطنية ذات الصلة في مواجهة هذا الوباء، وضيق ذات اليد على الصعيد المالي والاقتصادي، وضعف السيطرة الجغرافية والسياسية على التجمعات الفلسطينية خاصة في القدس وغزة، وكذلك الحال بالنسبة للمنافذ الحدودية والمعابر ونقاط التماس مع اسرائيل، مع الأخذ بعين الاعتبار حالة الاستخفاف والاستهتار بهذا الوباء من غالبية دول العالم لا سيما المحسوبة منها على العالم المتحضر.
وفي ظل هذه الظروف كان القرار الاستثنائي والحكيم للرئيس أبو مازن الذي يعبر عن بعد نظر وبصيرة نافذة بإعلان حالة الطوارئ في عموم فلسطين، وتوجيه الحكومة لإعداد خطة طوارئ وتنفيذها واقعا، عماد هذه الخطة هو الحفاظ على صحة الوطن والمواطن، من خلال توحيد كافة الجهود وتوظيف كل الامكانيات المتاحة، واتخاذ كافة الاجراءات والتدابير الصحية والاقتصادية والمالية والأمنية، ووضع الحلول للآثار الجانبية التي من الممكن أن تترتب على هذا القرار، بما يقود إلى احتواء الوباء ومنع تفشيه وحصره في أضيق نطاق وصولاً إلى تجاوز هذه الأزمة والنجاة منها بأقل الخسائر. وكما صفقة القرن لاقى هذا القرار في البداية الاستهجان والاستخفاف من البعض سواء من دول أو جماعات، واتهم البعض الآخر السلطة الوطنية بالتسرع، واتهم البعض (الطابور الخامس) السلطة بتوظيف الوباء لتقييد الحريات وتكميم الأفواه وملاحقة (المقاومين). لم تمنع حالة الاستخفاف والاستهتار التي سادت غالبية دول العالم ولا الاتهامات ولا التفسيرات والتأويلات لقرار إعلان الطوارئ الحكومة الفلسطينية من المضي قدمًا في تنفيذ خطتها، واضعة الإنسان الفلسطيني في قمة أولوياتها، دون النظر إلى أي آثار جانبية ذات علاقة بالخسائر المادية أو الاقتصادية، ودون توظيف الأزمة لخدمة أهداف سياسية أو حزبية أو جلب مساعدات مالية (التسول على معاناة المواطن)، مع مراعاة التخفيف من آثار هذه الإجراءات على حياة المواطن واحتياجاته اليومية مثل قرارات سلطة النقد بخصوص الرواتب والقروض، ومراقبة الأسعار وتوفير المواد التموينية.
وكما صفقة القرن التي لم تترك للقيادة الفلسطينية إلا خيارًا وحيدًا وهو الرفض، كان السلاح الوحيد المتاح والأكثر فعالية في مواجهة هذا الوباء هو سلاح "الوقاية" ورفع شعار "الوقاية خير من قنطار علاج" ووضعه موضع التنفيذ، وهو ما تطلب وضع استراتيجية شاملة ومتكاملة من قبل الحكومة الفلسطينية، شاركت في تنفيذها جميع المؤسسات الحكومية المدنية منها والأمنية بمختلف مستوياتها، وشُكلت لجان الطوارئ وخلايا الأزمة من المؤسسات ذات الصلة والاجهزة الامنية في المحافظات والمدن وصولاً للقرى والمخيمات، وانبرى الجميع في تنفيذ ما يخصه من بنود الخطة، وترافق ذلك مع حملة توعوية وتثقيفية واسعة ومكثفة حول وباء الكورونا وإجراءات السلامة الشخصية تصدر فيها الإعلام الرسمي الفلسطيني المشهد بكل مهنية وشفافية وإحترافية، وكانت رسائله المرئية والمسموعة والمقروءة على مدار اللحظة لتساهم في نشر ثقافة مجتمعية تدرك خطورة الأزمة وتتفاعل مع استحقاقاتها بما يكفل استجابتها للتوجيهات الصادرة عن جهات الاختصاص وتنفيذ الإجراءات المعلن عنها، وبالرغم من حالة التردد في الأيام الأولى الناتجة عن عدم اليقين إلا أن درجة الاستجابة والتفاعل من قبل المواطن كانت مرضية وزادت وتيرتها يوميًا مع تصاعد المخاوف ولكن بوعي ونضج أكثر، وهنا لا بد من الإشادة بالدور الذي تلعبه حركة فتح وشبيبتها في المشاركة الفاعلة بتنفيذ الخطة وعلى جميع المستويات.
لوحة جميلة رسمها الشعب الفلسطيني في مواجهة هذا الوباء، قائد حكيم، وحكومة فاعلة ضبط إيقاعها رئيس وزراء مقتدر وكفؤ، وشعب حي أثبت وعيه ونضجه ليس في مواجهة التحديات والمخاطر السياسية وحسب بل والبيئية أيضًا من خلال تكافله وتعاضده وتكامله (مؤازرة مدينة بيت لحم نموذج)، وقطاع خاص انحاز للوطن والمواطن، ومؤسسات أثبتت رغم تواضع امكانياتها أنها مؤسسات دولة تفوقت على نظيراتها في العديد من دول العالم، وفي مقدمتها القطاع الصحي، والإعلام الرسمي، والمؤسسة الأمنية ومنتسبيها الذين سطروا كما كل مرة أجمل صور الفداء والتضحية، ليس في إنفاذ القانون بكل حسم دون المساس بكرامة المواطن ولا في مواجهة الإشاعة دون المساس بحرية الرأي ولا مشاركتها في الحملات التثقيفية وحسب، بل وفي رعاية المشتبه بهم باصابتهم بالفيروس وتوفير كل احتياجاتهم من علاج وغذاء وملابس، والانتشار في الطرقات والشوارع تحت البرد وزخات المطر بعيداً عن عائلاتهم وذويهم. وفي هذا المقام لا بد من الاشارة والإشادة بكل المسؤولين كل في موقعه لا سيما محافظي المحافظات الذين أثبتوا أنهم على قدر المسؤولية من خلال تواجدهم الميداني وسهرهم المتواصل لمتابعة تنفيذ قرارات وإجراءات الحكومة، ونخص بالذكر المناضلة ليلى غنام محافظ محافظة رام الله والبيرة، التي قدمت نموذجًا آخر للمرأة الفلسطينية في ميدان القيادة والمسؤولية.
وكما صفقة القرن، حين كانت دائرة التأييد والدعم لقرار الرئيس والقيادة برفض الصفقة تتسع، فإن الاشادة بقرار الرئيس أبو مازن باعلان حالة الطوارئ واتخاذ إجراءات صارمة في مكافحة الوباء بدأت تتسع دائرتها، لا سيما بعد أن رأى الجميع إلى أين قاد الاستخفاف والاستهتار العديد من الدول بعد أن فقدت قدرتها على السيطرة واحتواء تفشي الوباء، وباتت التجربة الفلسطينية محط إحترام وتقدير على المستوى الدولي، بعد أن أشادت منظمة الصحة العالمية بإجراءات السلطة الوطنية وصنفتها كثاني دولة بعد الصين تنجح في مواجهة الوباء والحد من انتشاره، وشُبهت مدينة بيت لحم بِمدينة ووهان الصينية في قدرتها على التعامل مع الوباء.
هاتان التجربتان السياسية والبيئية تجعلنا نفخر ونزهو بقائدنا وزعيمنا ورئيسنا "حكيم الأمة"، وتجعلنا نثق بمستقبل مشرق تحت قيادته وعلى هدى سياساته وقراراته، أطال الله في عمره وأمده بالصحة والسلامة، ويحذونا الأمل بعد أن نتجاوز هذه الأزمة إن شاء الله، أن نرى ونلمس النتائج السياسية لحكمة الرئيس والقيادة بعد أن قدمت دولة فلسطين نموذجًا يحتذى به في مواجهة هذه الكارثة البيئية.
نسأل الله أن يحمي شعبنا وأن يوفق رئيسنا وقيادتنا وشعبنا في تجاوز هذه الأزمة، اللهم آمين يا رب العالمين.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها