بعد المعركة الناجحة والخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس أبو مازن وتحدى فيه الإدارة الأميركية وإسرائيل وكل الذين ضغطوا عليه للتراجع عن التوجه إلى مجلس الأمن الدولي لطلب عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، في يوم الثالث والعشرين من أيلول الماضي، تبقى الأسئلة مفتوحة بشأن مستقبل النشاط السياسي الفلسطيني في المرحلة المقبلة.

من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يبذل قصارى جهده من أجل التوصل إلى صيغة تسمح باستئناف المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتسمح كذلك بتلافي مواجهات محتملة في مجلس الأمن والأمم المتحدة في إطار الاعتقاد بأن استئناف المفاوضات قد يجعل الفلسطينيين يتمهلون في موضوع التصويت على طلب الحصول على عضوية فلسطين في المنظمة الدولية، والحديث يدور هنا عن بيان اللجنة الرباعية الدولية الذي تمت الموافقة المبدئية عليه في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

الرئيس أبو مازن مستعد للعودة للمفاوضات على أساس قبول إسرائيل لبيان "الرباعية" مع تأكيده على أن مضمون البيان يتحدث عن حدود 1967 وعن وقف الاستيطان بشكل كامل. وليس واضحاً إذا ما كان البيان بصيغته الحالية يكفي للبدء في مفاوضات جادة أم أن هناك حاجة لإضافة بعض الملاحظات، وخاصة فيما يتعلق بمسألتي الاستيطان وحدود 1967، حتى تصبح الأمور أكثر وضوحاً.

إسرائيل من جهتها وكما ورد على لسان عدد من المسؤولين فيها على رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ترى أن بيان "الرباعية" يتوافق مع الموقف الإسرائيلي القاضي باستئناف المفاوضات من دون شروط. وبطبيعة الحال لا يرى الإسرائيليون أي غضاضة في إشارة البيان إلى مرجعيات العملية السياسية، فهم يعتقدون أن المفاوضات مفتوحة على كل الاحتمالات ولا شيء ملزماً لهم، بل إن الحكومة الإسرائيلية تحاول التسريع في فرض المزيد من الأمر الواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهي لا تكتفي فقط بالإعلان عن خطط بناء استيطاني جديدة فيما يبدو كصفعة لكل جهود إحياء العملية السياسية، بل تبحث الآن في صيغة قانونية لتحويل البؤر الاستيطانية التي تقول السلطات الإسرائيلية عنها أنها غير شرعية إلى شرعية، أي المزيد من التراجع ووضع العقبات أمام أية محاولة لإحداث اختراق في العملية السياسية المجمّدة كليّاً منذ فترة طويلة.

ولا يبدو في الأفق القريب ما يمكن أن يحدث تغييراً في موقف حكومة نتنياهو تجاه العملية السياسية مع أنه يصرح على الدوام أنه على استعداد للقاء الرئيس أبو مازن في أي وقت. فهو بحاجة لهذا اللقاء في إطار لعبة العلاقات العامة التي يقوم بها داخلياً وخارجياً، خاصة وهو يواجه أزمات عديدة على كل المستويات. وعليه من الصعب تلبية المطالب الفلسطينية لاستئناف المفاوضات، والسؤال: هل يوافق الرئيس أبو مازن على صيغة حل وسط لا تضمن الاستجابة لمطلبي الحدود والاستيطان، ويقبل بالعودة إلى المفاوضات تغليباً للجوانب الإيجابية الأخرى في بيان الرباعية الدولية؟! إذا فعل الرئيس ذلك سيواجه مشكلة على المستوى الشعبي وسيعتبر كمن قدم تنازلاً للإسرائيليين وقبل بالأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال، أو على الأقل خضع لضغوط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

في المقابل ماذا سيكون الخيار البديل فيما لو فشلت جهود إعادة العملية التفاوضية للحياة من جديد، هل سيكون الذهاب نحو استكمال عملية المصالحة وتشكيل حكومة وفاق وطني جديدة بالاتفاق على رئيس حكومة ووزراء بين حركتي "فتح" و"حماس"، والبدء بمعالجة ملفات المصالحة الأخرى، وخاصة ملف منظمة التحرير. وهنا سيظهر الرئيس في موقف المتحدي للإدارة الأميركية، وهذا قد يجرّ على القيادة الفلسطينية ضغوطاً كبيرة. أم أن الرئيس سيذهب في كلا الاتجاهين أي المفاوضات والمصالحة بخطين متوازيين، وهنا ماذا سيكون موقف "حماس" مع العودة للمفاوضات في ظل الشروط الحالية؟!

من الواضح أن الذهاب نحو الأمم المتحدة لطلب الحصول على الاعتراف الدولي هو بداية طريق طويلة وصعبة في العملية الكفاحية من أجل تحقيق الأهداف والطموحات الوطنية الفلسطينية في الاستقلال والدولة كاملة السيادة على حدود 1967، وحل قضية اللاجئين وكافة ملفات التسوية السياسية المتفق عليها. وليس واضحاً بعد كيف ستسير الأمور في مجلس الأمن الذي ينتظر "الفيتو" الأميركي في حال حصول الفلسطينيين على دعم تسعة أعضاء من أصل خمسة عشر عضواً يشكلون مجلس الأمن الدولي. مع ملاحظة وجود حالة من الفوضى في إدارة العملية الدبلوماسية وبالذات في التصريحات والمواقف التي لا داعي لها بخصوص تصويت الدول المحتمل على طلب عضوية فلسطين. فليس من الحكمة التصريح بأسماء الدول التي ستصوت لصالحنا، أو توجيه انتقاد للدول المترددة أو التي تجد صعوبة في دعم الموقف الفلسطيني، وهذه العملية بحاجة إلى دبلوماسية هادئة وصامتة بعيداً عن تصريحات الإثارة المضرة والتي تستدعي ضغوطاً على الأصدقاء.

وفي كل الأحوال الخيارات القائمة أمام القيادة والرئيس أبو مازن تحديداً صعبة من دون شك، وكل منها يتطلب ثمناً معيناً. ولكن لا بد من الإشارة الى أن العملية انطلقت ولا بد أن تستمر نحو نهايتها المظفرة بتحقيق الاستقلال الوطني الناجز، مهما كان الثمن. وهنا لا بد من استثمار أوراق القوة التي بحوزة الشعب الفلسطيني على كل المستويات محلياً وعربياً ودولياً. وللربيع العربي أهمية استثنائية في الضغط على الموقف الدولي، بحيث ينبغي على القيادة ألاّ تعير الاهتمام لمحاولات التشويش والتخويف التي يمكن أن تصدر عن جهات مختلفة لثنيها عن مواصلة الطريق نحو الدولة المستقلة بدءاً بالاعتراف الدولي بها. والشعب الفلسطيني قادر على تحمل كل الصعوبات ومواجهة كل العقبات.