صحيفة الغارديان البريطانية، أدلت بدلوها، في واقعة اغتيال المعارض السوري الكردي مشعل تمّو، فجزمت بأن المخابرات التركية هي التي اغتالت الرجل، وبدا أنها في هذا الجزم الملفق، تتكىء الى وضعية التوتر في العلاقة، بين الحكومة التركية ومجموعات أو مجاميع كردية. وما أن نشر الخبر، في هذه الصحيفة دون غيرها، حتى أخذتني الخواطر الى الدور الممتد، لمصدر اعتمدته الغارديان، بخصوص الشؤون العربية أو الشؤون السورية بشكل خاص!

نحن هنا، لا نتحدث عن مصدر خبر، وإنما عن مصدر تسريب لخبرية واضح من خلال حيثيات سابقة على الاغتيال، أنها مفبركة من ألفها الى يائها. وكنت بدأت متابعة الغارديان دون غيرها، لكي أدقق في لغة معالجاتها لأحداث الثورة الشعبية السورية التي انفجرت بعد طول صبر، لإسقاط نظام يقهر المجتمع، وينتهبه، ويخنق حرياته، ويسفك دمه، ويتخذ من كل أنواع الفساد سبيلاً الى اجتذاب الولاءات. وللأسف كانت المعالجات في الغالب، مقتضبة وموصولة بالتنويع اللفظي لرواية النظام التي تنكر الشعب وتتحدث عن طرفين هما قوى الأمن والعصابات المسلحة. ولم يكن أحد وراء تلاعب الغارديان في معالجة الأمر السوري، سوى سيمون تيسدول «Simon Tisdall» رئيس التحرير المساعد لهذه الصحيفة، الذي دأب كـ “مختص” في شؤون الشرق الأوسط، على محاولاته تخويف السوريين وتيئيسهم، من خلال تحليلات يتلقفها المعنيون بفشل الثورة السورية، ويترجمونها الى العربية، وينشرونها. وللأسف، ظل تيسدول هذا، يعتمد على مصدر وحيد، هو المغتربة السورية ريم علاف، التي تعمل في مؤسسة يترأسها فواز الأخرس، والد عقيلة الرئيس بشار الأسد. وللدقة، لم يعتمد تيسدول ريم، مصدراً للنبأ اليقين، بصفتها عضوة مهمة وناشطة في “الجمعية البريطانية -السورية” التي يرأسها الأخرس، وإنما لكونها زميلة في مؤسسة أخرى يُقال إنها رصينة وعريقة، هي “المعهد الملكي للشؤون الدولية” المشهور بإسم المنزل الذي يتخذ منه مقراً وهو «شاتام هاوس Chatham House». وأخوكم العبد لله، يعرف هذا المعهد، وقد مررت عليه في شهر رمضان المبارك المنصرم، في “جيمس سكوير” وسط لندن، قاصداً التعرف على جديد منشوراته، ولم يتسن لي يومها، الدخول لسبب إجرائي يتعلق بمواعيدهم. فهو أحد أهم مراكز التحليل السياسي للأحداث الدولية، ويطرح نفسه كمنظمة حكومية محايدة، ويقول إن لفيفاً من الباحثين والأكاديميين وممثلي المجتمع المدني والصحفيين والديبلوماسيين، يتعاونون في بحث قضايا العالم، لكي يخرجوا بنتائج تساعد الآخرين على فهمها بعمق. وفي تقديري أن المركز، ظل يتمتع بسمعة عالية وهيبة علمية، ويكفي للدلالة على ذلك، أن أرنولد توينبي، المؤرخ البريطاني الأشهر في القرن العشرين، الذي ركز على تاريخ الحضارات والمجتمعات، كان رئيساً له، وهو من هو، على صعيد دراسة التاريخ، وقد نعته الصهاينة بصاحب الهرطقات وكان يطرح نقيض روايتهم!

تسيدول، رئيس التحرير المساعد لصحيفة الغارديان، يستفتي ريم علاف، ولا يستفتي المركز. وهذه الأخيرة، موحى اليها. ويقيني أن التسريب الملفق، المتعلق بقتل المعارض السوري الكردي مشعل تمّو، جاء لكي يضرب أصحاب “الخبرية” أكثر من عصفور بحجر واحد. فمن جهة، هناك التقصّد لدواعٍ مفهومة، لتأجيج العلاقة المتأزمة أصلاً بين الأتراك والأكراد. فهؤلاء الأخيرون، حساسون جداً حيال عمليات القتل التي تطال رموزهم، والنظام السوري يريد التأجيج لكي يكبح حركة الاندفاع التركي، في اتجاه تأييد ثورة السوريين، على قاعدة الإحساس بالمخاطر، وخطأ المغامرة بنزاع أو بمقدمات نزاع، على الحدود السورية التركية. في الوقت نفسه، يُراد من خلال القتل الذي يعرف السوريون جميعاً من هم مقترفوه، أن يُقال لأكراد القامشلي، ولسائر الشعب تالياً، إن من يرفض الحوار مع السلطة، مثلما فعل مشعل تمّو، ومن ثم يختفي مطارداً داخل البلاد، ستدركه الأيدي الأمنية وتنال منه وترتاح. كذلك كان القتل رسالة الى المجلس الوطني السوري، الذي أصبح مشعل تمّو عضواً فيه!

كان المغدور، تعرض لمحاولة اغتيال قبل شهر من سقوطه كشهيد على طريق الحرية. وفي اليوم التالي لاغتياله، وقف وليد المُعلم، يتوعد أية حكومة في العالم، تعترف بالمجلس الوطني السوري، بـ “عقوبات مشددة” متفائلاً بقدرة نظامه، ليس على الإفلات من العقوبات وحسب، وإنما إيقاع العقوبات بالأمم وحكوماتها. هكذا تلفّظ وزير خارجية سورية، الذي نما دوره في مدرسة رئيس المخابرات اللواء علي مملوك، ويُسجل له في أروقة النظام أنه “فتح” العلاقات مع تركيا وفرنسا وأميركا، بشفاعة المعلومة الكيدية عن الآخرين، كما سجل لحسابه أنه أقام علاقات خاصة مع رجب طيب أردوغان وعمرو موسى، قبل أن يجد نفسه في موقع الذم والشماتة العلنية للرجلين “الصديقين”!

أكذوبة الغارديان، حول جريمة نفذتها المخابرات التركية، لن تنطلي على أحد، ويجدر بهذه الصحيفة، أن تزجر مساعد رئيس تحريرها، لكي لا يصبح أداة لترويج تسريبات ملفقة من هذا الطراز. فها هم السوريون يباشرون ثورة طابعها العام جماهيري، وتشارك فيها كل طبقات الشعب وكل فئات الأعمار، ويرفض أهل هذه الثورة، أن يتدخل المستعمرون، ومع ذلك ظلت المواقف العربية والدولية، دون مستوى الاستجابة لصرخات المظلومين وأنينهم ولدماء شهدائهم. وبدل أن يبادر النظام من خلال وسطاء يريدون الخير لسورية، بأخذ موقف من أفعال الفرقة الرابعة وأجهزة الأمن، ويقترح على السوريين دستوراً عصرياً تعددياً ديمقراطياً، ويفتح المجال للمنافسة الشفافة بين القوى السياسية، على قاعدة وحدة سورية وشعبها، ويجنب البلاد والعباد كل هذا العذاب؛ تراه ينكر أن هناك ملايين تهتف ضده، وينسب الأحداث الى عصابات، ويكرر روايات وتعليلات مثيرة للسخرية، ثم يشق الطريق الى الغارديان وسواها، لكي يدس أكذوبة يلفق بها للأتراك جريمة اغتيال، لم تسبقها أية حيثيات من جانبهم بحق المغدور، كالسجن والملاحقة ومحاولة اغتيال قبل شهر، مثلما حدث من جانب القتلة الحقيقيين!.