كان الرئيس موفَّقًا، ولعلّ خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة التي تحمل الرقم (74) كان الأفضل بين خطاباته في نفس المكان.

لقد جاء الخطاب شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا.. شاهدًا على ما ترتكبه سلطات الاحتلال من قمع وبطش ومصادرة للحقوق والأموال، ومن تنكرٍ للشعب الفلسطيني ومنعه من نيل استقلاله وحق تقرير مصيره بقوة السلاح وجبروت الاحتلال المحمي بالتأييد المادي والسياسي والعسكري الامريكي والغربي.

لقد ظلَّ الرئيس محمود عبّاس يروي قصة النكبة ومعاناة شعبه بلغة سياسية واضحة، وعلمية مقتضبة كلما لاحت الفرصة، وخاصة في أهم المنابر الدولية، وظلَّ يقدم الرواية الفلسطينية بشكل ثابت وبلغة يفهمها العالم.

وكان الرئيس نذيرًا في أنَّ الشعب الفلسطيني لن يقبل بغير حقه في دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وأنه لن يقبل بوساطة أمريكية ثبت انحيازها وعداؤها لحقوق الشعب الفلسطيني، فقد تنكرت الولايات المتحدة لكل وعودها وخرجت من خلال سياساتها عن قرارات الشرعية الدولية، وطعنت هذه القرارات حين نطق سفيرها في (إسرائيل) بمواقف عدوانية سافرة سواء لجهة اعتبار الاستيطان الإسرائيلي شرعيًّا أو بتجسيده مواقف إدارته بجعل القدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الامريكية اليها.

والعدوانية الأمريكية تجلّت أيضًا في إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والاستعداء المستمر على القيادة الفلسطينية ومؤسسات الشعب الفلسطيني باعتبار الكونغرس الأمريكي أن منظمة التحرير إرهابية، رغم أنّ المنظمة شاركت مع الإدارة الأمريكية في كثير من المواقف التي عملت على محاربة الإرهاب، وانخرطت في اتفاقيات دولية جعلت لها مكانة مرموقة، فكانت قائدة لمجموعة الـ(77) في الصين، كما اعترفت بها عديد من الدول في العالم وصوتت لها الجمعية العامة في الأمم المتحدة بـ (140)صوتًا..

الرئيس وبجرأة واضحة رفض حلّ الدولة الواحدة لما يفضي إليه من مخاطر في رغبة (إسرائيل) تحت هذا الاسم في أن تمارس سياساتها العنصرية في إقامة نظام ابارتيد، وتمسّكَ بحل الدولتين بصورة حاسمة رغم محاولات (إسرائيل) إسقاط هذا الحل وجعله عديمًا من خلال مصادرة الأرض الفلسطينية التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية.

لقد كان الرئيس واضحًا في أنَّ شعبه سيظل يتمسّك بحقه في المقاومة بكلِّ أشكالها ويدعو للسلام، بيد كانت وما زالت ممدودة، لأن تحقيق الدولة لا بدَّ أن يقوم بنضال متصل يدعمه المجتمع الدولي، ويجعل (إسرائيل) غير قادرة على الاحتفاظ باحتلالها.

كان الرئيس بليغًا وواضحًا ومؤثّرًا حين كان يخرج عن المكتوب ليؤكّد موقف قيادته وشعبه الذي يلتف حول هذه القيادة.

والرئيس عبّاس الذي يعتبر أب إحياء المؤسسات الفلسطينية حين أعاد بعث المجلس الوطني الفلسطيني بعد طول غياب، واعاد الحيوية لمنظمة التحرير ومؤسساتها المختلفة، ينطلق الآن ليستكمل البناء، ويقطع الطريق على “أحصنة طروادة” الذين استهدفوا غزو المنظمة من الداخل وتقويضها وضرب التمثيل الفلسطيني الذي ضحت الأجيال الفلسطينية ليبقى مستقلا، وراكمت له تراثًا هائلاً من النضال الذي شكّل روافع من الشهداء والأسرى والجرحى، وهُم الذين أكد الرئيس عبّاس وفاءه لهم أمام العالم بقوله: إنَّ (إسرائيل) تقايضه عليهم وتضغط عليه ليتخلى عنهم دون أن تدرك أو قد تدرك، ولذا فإنها تستهدف نزع روح الشعب الفلسطيني باستلال شهدائه من جسده ليغدو جسدًا ميتًا ويغدو وجود المنظمة والسلطة غير مبرر باعتبارهما تتويجًا لنضال شهداء.

قالها بوضوح لو لم يبقَ لديه سوى دولارٍ واحدٍ سيدفعه لأسر الشهداء والأسرى مؤكِّدًا الجذور ونسغ القضية التي ينتمي لها.

لقد عمل الاحتلال بكل وسائله ليفك قبضة الرئيس عبّاس عن ثوابت القضية التي يمسك عليها كالإمساك على الجمر، ولكن الاحتلال لم ينجح ولن ينجح في ثني الرئيس في مواقفه التي سمعناها فما زال يقف كالسنديانة شامخًا رغم الرياح العاتية ورغم الحروب الصغيرة والكبيرة ورغم الطعن في الظهر والتنكر لأبجديات القضية المركزية من عديد من الاطراف حتى داخل الإطار الفلسطيني.

يقطع الرئيس الطريق على مدعي الوطنية واحقية ادّعائهم التمثيل حين يدعون لتجديد هواء البيت الفلسطيني وصيانته بالانتخابات التشريعية والرئاسية ويتحدى ويرمي الكرة مجدّدًا في وجه الانقلابيين والانفصاليين أن تعالوا إلى كلمة سواء، ويأخذ خطوته الثانية الجريئة بعد أن اتخذ خطوته الاولى في بناء المجلس الوطني الفلسطيني وسط موجات من التشكيك لم تنجح امام اصراره وصلابته ورؤيته الصائبة.

إذا هو ينادي بالانتخابات الفلسطينية من على منبر الأمم المتحدة ليكون شاهدا أن فلسطين كانت وما زالت ديمقراطية تحتكم الى صناديق الاقتراع, وان ما اعتلى المسيرة من صدأ عطل ذلك, فانه ليس من تراث الشعب الفلسطيني, ورغم كل الضغوط الاسرائيلية الاحتلالية والاستبداد والظلم والعنف والاستفزاز الذي يمارس ضد الشعب الفلسطيني فان الرئيس يختار الاصعب, وهو الإمساك بطريق السلام والمفاوضات ولم يذهب الى تصدير الازمات وافتعال صراع مسلح لا يكسب فيه الشعب الفلسطيني في هذه اللحظه التي تستثمر (إسرائيل) فيها كافية المعطيات لزج شعبنا في أتون الحريق والاستعداء عليه, ووصفه بصفات ما زالت تعمل على الصاقها به.

كان الرئيس في خطابه قريبًا من شعبه وقريبًا من العالم لم يعمد إلى الشعبوية واللغة الانشائية بل ظل يحافظ على ثوابت الخطاب الفلسطيني المقبول عالميًّا رغم أنَّ العالم خذل الشعب الفلسطيني وما زال يخذله… لكن ذلك لا بد أن يستنهض همة شعبنا كله لمزيد من الكفاح والصبر والصمود وليس دفعه باتجاه المغامرة غير المحسوبة.

لا أحد اليوم يلوم الشعب الفلسطيني على اختيار كافة أدوات نضاله وهذا بفضل موقف الرئيس عبّاس وقيادته الحكيمة التي أشهدت العالم على مواقفها المتزنة التي تخدم السلام العالمي.

من على منبر الامم المتحدة، ومن عقر الولايات المتحدة وعاصمتها نيويورك أطلق الرئيس توصيفه للموقف الأميركي العدواني وإدانة وفضح أساليبه. كما اسقط صفقة القرن برفض قبولها, وهو الذي مارس بصموده عملية الاسقاط عمليًّا قبل أن يقولها على منبر الأمم المتحدة متحدّيًّا الإدارة الأمريكية الحالية، أن كان تبقى لديها من الصفقة ما لم تعلنه أو تقوله أو تفعله، وكان في موقفه كالجبل الذي لا يهزه الريح، متكئًا على إرادة شعبه وصمود هذا الشعب، وتضحياته، وهو موقف لا تقفه دول عديدة في الإقليم، مددجة بالسلاح متخمة بالأموال.

نعم حق شعبنا في المقاومة أكده الرئيس عبّاس الذي رفض أي رعاية فردية من أي دولة وفي مقدمة ذلك الولايات المتحدة ودعا لمؤتمر دولي وإلى دور الرباعية الدولية.

كان الرئيس يطلب الاستقلال ومازال وسيبقى وسيورث هذا الطلب إن لم يتحقق في عهده للذين سيحملون الراية من بعده، وهو يؤمن أنه لن يضيع حق وراءه مطالب، ويؤمن إيمانًا عميقًا وثابتًا، وإلا لما دعا شعبه للصمود والنضال إن الاحتلال زائل وان إطالة المعاناة من خلال الاحتلال هي جريمة لا يجوز للعالم ان يصمت عليها، وإنما عليه أن يعاقب فاعلها، حتى وإن كان هذا الفاعل (إسرائيل) المحمية بالسياسات الأميركية العدوانية، وهي سياسات وصفها الرئيس أبو مازن بأنها مدمرة لعملية السلام مطالبًا العالم بانقاذ عملية السلام التي خطفتها (إسرائيل) بمساعدة أميركية وشوهتها وأخفت ملامحها.

في موقف الرئيس عبّاس تتلخّص تجربة الشعب الفلسطيني وما فيها من استنباط دروس تاريخية مضى عليها أكثر من قرن من الزمان، من مقارعة المستعمر والمستوطن والعدو الإسرائيلي، فلم تعد المغامرة والغوغائية والاندفاع غير المحسوب هو الذي يسيطر على إرادة الشعب الفلسطيني الذي تعلم من دروس الماضي, ولذا فان الرئيس عبّاس بقيادته لمسيرة شعبه يدرك أين تقف مصالح هذا الشعب.. وكيف يمكن أن تخدم، ويدرك صعوبة المسيرة وتعقيدات مسالكها، وهو لا يؤمن بالهروب إلى الأمام أو التبرع بطاقات شعبنا مجانًا، وإنّما يحتسب لذلك كل خطوة، وهذا لا يعني ضعف قيادة الشعب الفلسطيني أو عجزها أو ضعف الشعب الفلسطيني أو مصادرة إرادته، وإنما يعني ذلك أن هذا الشعب يستطيع قلب الطاولة وقد حذر الرئيس عبّاس رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من مغبة إنفاذ ما كان وعد به الناخبين الاسرائيليين في تيار الفاشية الإسرائيلية من إعطائهم غور فلسطين وشمال البحر الميت.

ومجرد تأكيد الرئيس عبّاس على الثوابت الفلسطينية المؤكدة والمعروفة في زمن ”الشلح” والتنكر والخذلان وفي زمن توحش الفاشية الإسرائيلية وتمثلها للنهج النازي فإن ذلك يعني الكثير, فما زال الرجل يرابط في خندق شعبه، وما زال يخاطب العالم بلغة صاحب الحق الشجاع في المطالبة بحقه، رضي من رضي أو غضب من غضب.

إنَّ صمود الرئيس وبصيرته كانا كفيلين بجمع شعبنا حول قيادته وإصرار هذا الشعب على بلوغ أهدافه في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.