من استمع أمس الثلاثاء لخطاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب في الجلسة الافتتاحية للدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، شعر أنه يستمع لخطاب لا ينم عن حكمة سياسية، ولا عن دراية وخبرة في إدارة العلاقات الدولية مع أقطاب ودول العالم. جاء خطاب سيد البيت الأبيض منفرا، ومتعاليا ومتغطرسا، واستفزازيا. حملت كل جملة فيه (الخطاب) عصا غليظة ألقاها في وجه دول العالم مع استثناءات ضيقة جدا، عندما أعلن بالفم الملآن، ان أميركا تملك أكبر جيش في العالم، وأنها استثمرت مؤخرا ما يزيد على 2 تريليون دولار أميركي لتحديث أسلحته النووية والهيدروجينية والكيميائية والجرثومية والنانوية والتقليدية، وأكد انه لا يتمنى ألا يستخدم هذه الأسلحة ضد شعوب ودول العالم. وكأنه يقول للدول وزعمائها، عليكم الإصغاء لصوت القوة الأميركية، وتنفيذ أجندتها دون تردد، وإياكم تجاوز معايير شرطي العالم. نحن سادة الكون، وعليكم الطاعة بصمت. وتجاهل من حيث يدري أو لا يدري ان هناك 14 دولة تملك الأسلحة النووية، وبعضها خاصة روسيا الاتحادية تفوق قدرتها النووية ما لدى البنتاغون.
وتابع الرئيس الـ45 أو الـ44 لا فرق حربه التجارية المعلنة على جمهورية الصين الشعبية منذ مايو/ ايار 2018، مهددا الصين بالمزيد من فرض الرسوم الجمركية. وذلك بهدف كسر إرادة المارد الصيني، ورد الأزمة الاقتصادية للمنافس الأول للاقتصاد الأميركي، الذي تقدم بخطى حثيثة إلى المرتبة الثانية عالميا، وهناك بعض التقديرات الخبيرة، تقول إن الصين أمست الاقتصاد الأول عالميا. وتجاهل رجل العقارات النتائج السلبية، التي حملتها حربه الاقتصادية على الصين، وارتداداتها العميقة في الداخل الأميركي، حيث من المفترض ان يدخل مع الاقتصاد العالمي برمته في العام المقبل في أزمة كارثية، وفق العديد من الخبراء الاقتصاديين، قد تكون الأكثر ركودا وخطورة على العالم، وتحمل في طياتها نذر حرب عالمية. لا سيما وأن نسبة المديونية العالمية تضاعفت زيادة عن الناتج المحلي العالمي للدول بـ 318%، ووصلت إلى 244 تريليون دولار أميركي خلال الربع الثالث من عام 2018 بزيادة نسبية 12% عن عام 2016. وتجاوزت نسبة المديونية الأميركية الداخلية والخارجية 22 تريليون دولار، والمديونية الصينية بلغت 14 تريليون دولار. رغم ان الاقتصاد الأميركي شهد انتعاشا نسبيا خلال العامين الماضيين. ولكنه انتعاش شكلي، ومؤقت، وتضليلي.
كما وتحدث عن الأزمة مع إيران الفارسية، وأكد أنه لن يسمح لها بالحصول على السلاح النووي. ورحب بإعادة النظر باتفاق (5+1) الذي وقع عام 2015. وأعتقد ان الحديث عن إيران الملالي ليس سوى ذر للرماد في العيون، ولم يحمل جديدا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولم يلوح لإيران بأية تهديدات تضر بالعلاقات المشتركة بين البلدين، وحتى إن كان مظهرها المعلن "العداء"، لكن باطنها التوافق على استنزاف العرب، ومص دمائهم وثرواتهم، ووضعهم في أسفل السلم العالمي.
وعلى الصعيد الأوروبي، مارس صاحب الشعر الأصفر التحريض المباشر على الاتحاد الأوروبي، ووعد بريطانيا في حال خروجها من الاتحاد بإبرام اتفاق معها لتعزيز اقتصادها، ومكانتها، وتعويضها عن أية خسائر قد تمنى بها نتاج مغادرة الاتحاد الأوروبي. وهو ما يشير إلى ان الرئيس ترامب يعمل بشكل حثيث لتفكيك الاتحاد الأوروبي، ويخشى استمراره، وقوته الاقتصادية والثقافية، ويريد دول أوروبا تابعة للمشيئة الأميركية، وتدفع الجزية لراعي البقر الأميركي، وهذا ما أشار له، عندما قال نحن نملك أعظم قوة عسكرية في العالم، ولكن لن ندافع عن أحد بالمجان، وعلى من يريد مساندتنا له، ان يدفع الفاتورة، وهي رسالة واضحة الدلالة لقادة أوروبا.
وعن الملف العربي الإسرائيلي لم يتطرق للسلام الفلسطيني الإسرائيلي، إنما طالب بما تريده دولة الاستعمار الإسرائيلية، وهو التطبيع المجاني مع الدول العربية دون الالتزام باستحقاقات التسوية السياسية، ودون منح الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه ومصالحه الوطنية. ولم يشر طبعا لصفقته المشؤومة، لأنه لا يملك ما يقوله في ضوء نتائج الانتخابات الإسرائيلية، كون مستشاره المستقيل، غرينبلات، لم يخلص من زيارته الوداعية لإسرائيل لأية نتيجة تساعد الإدارة الأميركية على التفاؤل بنشر الشق السياسي من صفقة القرن، والتي أمست مؤجلة إلى أجل غير مسمى، إن لم تكن قد دفنت إلى الأبد شاء ترامب أم أبى.
خطاب الرئيس ترامب أمام الجمعية العامة بعيد كل البعد عن معايير وقيم السياسة الدولية، وفيه بلطجة واضحة، وغطرسة عكست شخصيته النرجسية تماما. وبدا كأنه جاء ليملي على العالم عصا الطاعة، وليس لينشر التعاون والتكامل والتسامح بين الدول والشعوب، وتعاونها على مواجهة التحديات الخطيرة، التي تهدد البشرية كلها. الأمر الذي يتطلب من زعماء أميركا في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وفي المجلسين البرلمان ومجلس الشيوخ وباقي المؤسسات والكارتيلات والمعاهد المؤثرة في صناعة القرار الأميركي التصدي للأخطار التي يحملها الرئيس ترامب على الولايات المتحدة خصوصا والعالم عموما.