تقرير/ صقر ابو فخر

مفوضية الاعلام والثقافة - لبنان

قبل عامين طوينا ربع قرن على مجزرة صبرا وشاتيلا، هذه المجزرة المروِّعة التي ربما تُعدّ واحدة من أبشع مجازر العصر الحديث في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى الآن ما زالت يد العدالة مغلولة، وأيدي القتلة طليقة.

 

لعل البعض الآن يريد أن يطوي هذه الصفحة البشعة، بل حتى أن يسامح المجرمين، وأن يغفر لهم ما فعلوه اقتداء بالفدائي الفلسطيني الأول السيد المسيح. لهذا فإن الكلام على هذه المجزرة اليوم، ليس إعادة فتح للجروح وهي كثيرة، بل هو إعادة تأكيد على أن العدالة ما زالت طريدة السياسة في هذا البلد الموبوء بكثير من السياسيين المتسربلين بالعنصرية. ليسمع مَن لا يرى: التسامح هو، في جوهره، تسامح النبلاء، ولا يُقدم على الغفران إلا المقتدر. وهذا يعني أن على المجرمين واجب الاعتراف ثم الاعتذار على أقل تقدير، وهو ما لم يفعلوه حتى الآن.

 

ليس الاقتصاص والثأر ما يريده الفلسطيني بعد ست وعشرين سنة على الجريمة. إنه يتطلع الى أن يعترف مَن تسبب بهذا الألم بعذاباته وإنهاء العنصرية الموجهة اليه كإنسان يعيش فوق هذه الأرض. إذا كان الفلسطيني اليوم لا يريد الثأر، فإن كثيرين يريدون أن يهيلوا ركاماً من النسيان على هذه المجزرة. لكن، هيهات لهم هذه “الزعبرة”. فالذاكرة المثقلة بآلام شتى ما برحت تعيد استحضار ما لا يمكن نسيانه على الإطلاق، أي موت الأحبة.

 

إن تسامح الفلسطينيين وحده لا يكفي البتة لمحو العار الذي لحق بالإنسانية في هذا البلد المعذب. ما يكفي، في الحد الأدنى، هو إعادة المهابة الى العدالة المفقودة. فالقتلة ما زالوا طلقاء، والحثالات العنصرية عادت الى الظهور. ولا ريب في أن جذور هذا العنف الذي ارتكبته مجموعات ذئبية، وفتكت بالمدنيين العزل فتك الضواري، موجودة بقوة لدى الكثير من الحركات السياسية المحلية. وأكثر ما نخشاه أن يكون البعض قد تلذذ كثيرا بما جرى في مخيم نهر البارد في سنة ٢٠٠٧، ويتطلع الى تكراره في عين الحلوة مثلاً. دونكم، على سبيل المثال، ما قاله بشير الجميل لأستاذه أرييل شارون في سنة ١٩٨٢عن مصير المخيمات والفلسطينيين: “قراري بسيط. سنساعدكم على إجلائهم الى مقربة من الحدود السورية بحيث نستطيع أن نطردهم الى دمشق حينما تتسلم الحكومة اللبنانية الجديدة صلاحياتها (...). سيصبح مخيم صبرا في بيروت حديقة الحيوانات الوطنية اللبنانية” (“أسرار حرب لبنان”، بيروت: المكتبة الدولية، ٢٠٠٦).

 

في حقبة معينة تحولت مقبرة شهداء صبرا وشاتيلا الى مكب للنفايات. لكن الأدهى اليوم أن النفايات العنصرية ذاتها التي ارتكبت الجريمة قبل ست وعشرين سنة ما زالت تحرّض على الفلسطينيين بذريعة الإرهاب تارة وبخرافة التوطين تارة أخرى، وتزعم أنها كانت”مقاومة”.

 

لنتذكر كي لا ننسى

على امتداد نحو ثلاثة أيام متواصلة تبارى المجرمون في تجريب “حضارتهم” في اصطياد الأطفال والفتيات والنساء والرجال. حتى الأطفال الرضع طعنوهم بالحراب، وقطّعوا أصابع الفتيات الصغيرات، وبقروا بطون النساء، واغتُصبت الشابات منهن.    

 

إحدى الناجيات الفلسطينيات روت ما رأت فقال:”كان ابن عمي، وعمره تسعة أشهر، يبكي. فعلق أحدهم: ما عدت أطيق صوته، وأطلق النار على كتفه. بدأت أبكي، وقلت له: إنه الوحيد الباقي من عائلتي. أخذه وقطعه من فوق رجليه نصفين”. وزينب المقداد (لبنانية) قتلوا أولادها السبعة، وكانت حاملاً في شهرها الثامن. بقروا بطنها ووضعوا الجنين على ذراعها. أما وفاء حمود (لبنانية أيضا) فكانت مثلها حاملاً في شهرها السابع. قتلوها وقتلوا أولادها الأربعة.

 

أحد المسلحين “المتحضرين” تباهى و”تمرجل” وقال: “بعض النساء اختبأ خلف بعض الحمير (...). ولسوء الحظ اضطررنا الى إطلاق النار على هذه الحيوانات المسكينة كي نستطيع قتل الفلسطينيين المختبئين خلفها. لقد تأذت مشاعري عند سماع صراخ هذه الحيوانات الجريحة (...). وكان هناك كوخ صغير. فتحنا الباب عنوة ورأينا في الداخل رجلا مسنا وزوجته وولدين في الخامسة عشرة والسادسة عشرة. أوقفناهم وبدأنا التفتيش. أحد الأولاد صرخ بنا: “كلاب اليهود”. ظن نفسه شجاعاً هذا الملعون. واحد منا أدخل حربته في قلبه. وبدأ صراخ العجوزين والولد الآخر. تعجبنا من صراخهم، فنحن لم نقم بأي عمل يؤذيهم. جرّهم رفاقنا الى الخارج باتجاه الشاحنات المنتظرة، لكن لا أدري اذا كانوا وصلوا”(دير شبيغل، ١٩٨٣٢١٤

أمام هذا الانحطاط المريع الى ما دون الحيوانية، اضطر حتى رفائيل ايتان العنصري الى مداورة الجريمة بالقول: “الكتائبيون دخلوا الى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بهدف تطهيرها من الإرهابيين، وقتلوا بوحشية ومن دون تمييز بين الرجال والنساء والشيوخ والأطفال. وقتل الأبرياء هو أعظم الجرائم البشرية” (من رسالة إلى الجنود في مناسبة يوم الغفران كيبور، ١٩٨٢٩٢٤). ولمزيد من الإهانة لم يخجل مناحيم بيغن من التصريح أمام الكنيست بعد المجزرة بما يلي: »في شاتيلا وصبرا ثمة أشخاص غير يهود ذبحوا أشخاصاً غير يهود. فماذا يعنينا ذلك؟”.

 

المشاركون في المقتلة

شارك في هذه المقتلة نحو ٤٠٠ من الضباع الهائجة. وهؤلاء حملوا، فضلا عن الأسلحة وكدليل على تحضرهم، السواطير والفؤوس، وتوزّعتهم التشكيلات الحزبية الفاشية التالية:

كتيبة الدامور في “القوات اللبنانية” التي تولى فادي فرام قيادتها عقب اغتيال بشير الجميل مباشرة.

مجموعة من “نمور الأحرار” التابعة لحزب الوطنيين الأحرار.

مجموعة من حزب حراس الأرز التي كان يرأسه العميل الإسرائيلي إتيان صقر.

      

 أفراد من جماعة سعد حداد.  

تولى إيلي حبيقة قيادة القوة المهاجمة، واتخذ من مبنى الأمم المتحدة، غرب مخيم شاتيلا، مقراً له. وكان يساعده في قيادة المجموعات كل من: إميل عيد وميشال زوين (نائبه في جهاز الأمن) وديب أنستاز (قائد الشرطة العسكرية في القوات اللبنانية) وجيسي سكر (ضابط الاتصال مع الإسرائيليين) ومارون مشعلاني وجو إده. وفي ما بعد، حاول مَن بقي حياً من هؤلاء الأشخاص أن يُبعد كأس العار عن اسمه. لكن، أنّى له هذا المجد بعدما انزلق عدد ممن شارك في هذه المجزرة الى إفشاء أسرارها. فجيسي سكر لم يتورع عن دعوة زئيف شيف، الكاتب العسكري السابق في صحيفة “هآرتس”الاسرائيلية، الى جولة في بيروت، وقال له: “إذا أردت الاغتصاب فمسموح لك اغتصاب فتيات في الثانية عشرة فما فوق فقط«. وظهر ميشال زوين في ٣/١٠/١٩٨٢ في التلفزيون الإسرائيلي وتحدث عن مشاركته في المجزرة، وقال إنه قتل بيديه ١٥ فلسطينيا (“السفير”، ١٩٨٢١٠٤). واعترف بيار يزبك ممثل”القوات اللبنانية” في باريس، بمسؤولية القوات عن المجزرة في حوار مع التلفزيون الإسرائيلي (“السفير”، ١٩٨٤٩٥). أما إيلي حبيقة فقال، بصراحة متناهية: “إن كل المعارك التي خضتها ضد القوات السورية في لبنان، وكل الحروب التي واجهت فيها الفلسطينيين أو الأحزاب اليسارية تمت وأنا تحت إمرة آل الجميل. صبرا وشاتيلا تمت وكان فيها قرار كتائبي وافق عليه بيار الجميل. وكان هناك مَن يراقبني بالمنظار من على شرفة قصره في المنطقة الشرقية” (الشراع، ١٩٨٥١٠٢١).  

في ١٦ و١٧/٩/١٩٨٢ تمكنت مجموعة من الأوغاد من إهانة الإنسانية جمعاء، حينما ولغت في دماء آلاف الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين الهاجعين المتعبين في مخيم شاتيلا البائس وفي حي صبرا المجاور. وعندما استفاق العالم على هول ما جرى في تلك الليلة الضارية، كان المئات من الذين عميت عنهم عيون الوحوش الهائجة، ونجوا من حفلة صيد الفلسطينيين هذه، يهيمون على وجوههم في غبار الأزقة المجاورة وقد روّعتهم المأساة، وأذهلتهم مشاهد القتل الهمجي التي حاقت بهم، وأسلمتهم الى رياح الشوارع بعدما فقدوا كل شيء تقريباً، كل شيء بالتمام: آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم وأطفالهم وزوجاتهم وبيوتهم وصور الأحبة وأشياءهم الأليفة، وباتوا في العراء تائهين في صقيع ما بعده إلا صقيع الموت. لا أحد يعرف، على وجه اليقين، مقدار الهلع الذي حل في تلك الليلة الراعبة، فليس للضحايا فم ليتكلم، وما عاد للناجين، اليوم، إلا رؤى شبحية وكوابيس وأطياف تحوم في ظلال الذاكرة المنهكة.

 

نحن فم الضحايا. وحتى لا تنتصر الضواري القديمة التي تتجدد في هذه الأثناء في صورة عنصريين جدد، ها نحن مصرّون على استعادة رائحة الأبرياء المقتولين في كل سنة، ومتشبثون بالعدالة ما دام القتلة طلقاء.