تجسيداً للإرادة والشرعية الدولية التي تمثلها الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان قرارها الأخير الذي تبنته 128 دولة، ومعارضة 9 دول فقط، وامتناع 35 دولة، تعبيراً عن هذه الإرادة. وهنا لنا أكثر من ملاحظة لدى قراءة هذا القرار..

الملاحظة الأولى أن هذا العدد الذي صوت لصالح فلسطين يشكل ثلثي أصوات الأعضاء في الأمم المتحدة 193 دولة. وهو تصويت يعتبر عالياً في مقاييس التصويت على مستوى الأمم المتحدة.

وثانياً أن الدول المعارضة قليلة جداً وتمثل أقل من واحد في المائة من عدد الأعضاء في الأمم المتحدة، ووزن هذه الدول ضئيل باستثناء الولايات المتحدة الداعم التقليدي لإسرائيل. فهي من الدول الهامشية، والتي اعتادت التصويت لإسرائيل. وثالثاً الدول الممتنعة وعددها 35 دولة، ما نسبته تقريباً 18 في المائة، وهي نسبة متوسطه، لكنها في التحليل السلوكي أقرب للدول المؤيدة.

ويلاحظ هنا امتناع كندا والمكسيك عن التصويت، وهذا مكسب سياسي للموقف الفلسطيني بشأن القدس. ورابعاً غياب 21 دولة عن التصويت بنسبة حوالي 15 في المائة، وأيضاً هذه الدول أقرب في موقفها العام لمشروع القرار الذي يطالب بإلغاء الولايات المتحدة لقرارها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

والتساؤل هنا عن المضمون السياسي والقانوني للقرار؟.

هذا القرار ليس القرار الأول الذي تصدره الجمعية العامة بالنسبة للقدس، والإقرار بوضعها تحت الاحتلال الإسرائيلي، وعدم الاعتراف بأي تغييرات على الأرض تقوم بها إسرائيل لتغيير هذه الصفة. فهذا القرار تأكيد لقرارات مهمة مثل القرارين رقم 2253 و2254 الصادرين في 14-7-1967 واللذين يطالبان إسرائيل بالتوقف عن أي سياسات وإجراءات تغير وضعية مدينة القدس، وإلغاء جميع ما قامت به من تغييرات على الأرض. والملاحظ امتناع سفير الولايات المتحدة عن التصويت على القرارين المذكورين. وأهمية ذلك أن الشرعية الدولية كل لا يتجزأ، ولها صفة الديمومة والاستمرارية فهذه القرارات الدولية لا تسقط بالتقادم، عكس القرارات التي تتخذها الدول التي قد تلغى أو تعدل وفقاً لمصالح الدول ذاتها.

والأهمية الأخرى أن الشرعية الدولية لها السمو على أي قرارات تصدرها الدول، فالشرعية الدولية تجبّ وتلغي ما دونها من قرارات تتخذها الدول. فالسمو للشرعية الدولية، حتى لو افتقدت الشرعية الدولية القوة اللازمة لتنفيذها. وعلى الرغم من ذلك فالشرعية الدولية التي يمثلها القرار الأخير للجمعية العامة لها جانبان هامان.

أولاً: ليس كما يعتقد أن الشرعية بلا مخالب، وتفتقر للقوة، بل يمكن أن تتحول لقوة ملزمة، ومؤثرة، فهي تشكل سنداً قانونياً قوياً في التوجه نحو القضاء الدولي، والذهاب للمحاكم الدولية كمحكمة العدل والجنائية. وهنا قد تكتسب قوة لا يمكن تجاهلها من قبل الدولة المستهدفة.

وثانياً: أن الجمعية العامة هي من تمثل الشرعية الدولية وليس مجلس الأمن، وإن كان الأخير من يملك القوة التنفيذية أو من يملك تعطيل هذه الشرعية بحق الفيتو الذي تتمتع به الدول الخمس الدائمة العضوية، كما رأينا في الفيتو رقم 43 الذي استخدمته الولايات المتحدة لتعطيل هذه الشرعية. وتفادياً لهذا الفيتو يمكن للجمعية أن تمارس حقها بتطبيق قانون «الإتحاد من أجل السلام»، وفي حال صدور قرار بثلثي الأصوات يصبح ملزماً ولاغياً لأي فيتو. وفي هذا المعنى تكمن أهمية قرار الجمعية العامة.

ويبقى السؤال: كيف يمكن أن يترجم ذلك إلى قرار ملزم استناداً لقانون «الإتحاد من أجل السلام»؟ وقد تكون هناك قراءة أخرى لتحليل القرار لا تصب في صالح الدبلوماسية الفلسطينية والعربية، وهي أن عدد الدول التي أيدت قبول فلسطين دولة مراقباً في الأمم المتحدة أكبر من عدد الدول التي صوتت لصالح القرار الأخير على أهمية العدد وتصويت الدول، لكن يلاحظ أن هناك عدداً من الدول الأفريقية ودول أمريكا اللاتينية وهي دول داعمة تقليدياً للقضية الفلسطينية صوتت بالامتناع أو التغيب، وهذا يتطلب من الدبلوماسية الفلسطينية والعربية أن تنشط في هاتين القارتين لتوضيح الأبعاد المختلفة للقضية، وكسب صوتها مستقبلاً. ومن الأهمية بمكان هنا أن معركة الشرعية الدولية طويلة وشائكة وتحتاج إلى إمكانات وقوة كبيرة قد لا يملكها الفلسطينيون وتملكها الدول العربية من خلال المساعدات الاقتصادية وغيرها التي يمكن أن تقوم بها الدبلوماسية العربية، وهذا يحتاج لرؤية وتنسيق شامل بين الدبلوماسية الفلسطينية والعربية من خلال جامعة الدول العربية.

ويبقى لهذا القرار وهو ترجمته واقعياً من خلال سلوك الدول ذاتها.

وفي اعتقادي أن معركة الشرعية الدولية، ومعركة كسب أصوات الدول وتغيير سلوكها قد بدأت بين الدبلوماسية الأمريكية والإسرائيلية والدبلوماسية الفلسطينية والعربية، فسوف نرى سبقاً على تغيير مواقف الدول، وهذا أمر ممكن في السياسة.

بعبارة أخرى هل من الممكن أن تغير الدول وتتخذ قرارات مغايرة لتصويتها في الأمم المتحدة؟ والإجابة نعم بالمطلق. لأن السياسة في النهاية سياسة مصالح وقوة. وهذا هو التخوف. فقد نتوقع دولاً تتبنى الموقف الأمريكي، وهنا التحدي الأكبر للدبلوماسية الفلسطينية والعربية وليس فرحة التصويت فقط.