هيلي نيكي، سفيرة أميركا بالأمم المتحدة، قالت في مقابلة على إحدى الفضائيات الأميركية الأسبوع الماضي: "اعتقدنا أن السماء ستقع بسبب اعترافنا بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكن لم تقع، ومرت الأيام دون حدوث شيء." ولا أحد يريد للسماء أن تقع، لان من رفعها، هو وحده الخالق الذي يسقطها عندما تحين الساعة. والتعبير مجازي يستخدم عند حدوث تطور عاصف كاعتراف رئيس الولايات المتحدة الأربعاء الموافق السادس من ديسمبر الحالي بالقدس عاصمة لإسرائيل. وعلى ما يبدو أن جهل نيكي بالسياسة، هو ما دفعها لإطلاق مقولتها الغبية. لآن الأحداث وتداعياتها لا تقاس بردود الفعل الفورية، إنما بما تحمله من تطورات لاحقة.
مع ذلك التداعيات الفورية والمباشرة في فلسطين والعالم كله تشير إلى أن زلزالاً سياسياً حدث على الأرض الفلسطينية، وعلى المستوى السياسي العربي والإسلامي والعالمي. لأن القرار الأميركي متصادم مع ركائز عملية السلام، والقوانين والمواثيق الدولية، وفيه إنحياز فاضح للاستعمار الإسرائيلي، ومع مصالح الشعب العربي الفلسطيني، نجم عنه جملة قرارات للقيادة الفلسطينية أولاً رفض الرعاية الأميركية لعملية السلام، وعزلها لنفسها عن دورها، الذي تبوأته طيلة ال24 عاماً الماضية؛ ثانياً عدم الالتزام بأية اتفاقيات مع الولايات المتحدة ثنائية بشأن التسوية، وتحرير القيادة من أية تعهدات مع إدارة ترامب؛ ثالثاً التوجه للأمم المتحدة لتكون الراعي الأساس للتسوية السياسية؛ رابعاً التوجه لمجلس الأمن للطعن في الاعتراف العالمي بإسرائيل؛ سادساً ملاحقة أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتنقل سفارتها لها؛ سابعاً الهبة الشعبية الفلسطينية، التي تتسع وتتعاظم مع كل يوم، ومضاعفة كلفة الاحتلال الإسرائيلي؛ ثامناً عقد القمة الإسلامية وما تمخض عنها من نتائج إيجابية في دعم الموقف الفلسطيني، الذي عبر عنه الرئيس محمود عباس أمامها، وعقد مجلس وزراء خارجية الدول العربية، على ما به من ضعف، غير انه خطوة في الاتجاه الصحيح؛ تاسعاً رفض العالم كله القرار الأميركي، وما قد ينجم عنه من زيادة اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية، وخاصة من قبل دول الإتحاد الأوروبي .. وغيرها من التداعيات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأمنية والشعبية، التي ستحملها المرحلة القادمة.
وأعيد السفيرة الأميركية وكل من تناغم معها من الأميركيين والإسرائيليين للتاريخ لتأخذ منه عبرة، لعلها ورئيسها وإدارتها تعي الدرس جيداً، في العام 1948 بعد قيام دولة إسرائيل حدثت ردود فعل مباشرة، لكنها كانت بمثابة الشرارة لما حمله ذلك الحدث الخطير من تداعيات إستراتيجية في الوطن العربي، كان أهمها ثورة يوليو 1952 في مصر العربية بقيادة الضباط الأحرار، وتلا ذلك العديد من الثورات العربية غيرت المعادلة السياسية في الصراع العربي الإسرائيلي. صحيح أن إسرائيل بقيت وهزمت العرب في أكثر من حرب بفضل الدعم الأميركي والغربي الرأسمالي، غير إن حرب أكتوبر 1973 شكلت منعطفاً هاماً، رغم ما شابها من إرباكات، وما تلاها من وهن في السياسة الرسمية العربية. كما أن هزيمة حزيران/ يونيو 1967 شكلت الانطلاقة الثانية للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي أرغمت العالم على الإقرار بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، وأصدرت الأمم المتحدة العديد من القرارات المؤيدة والداعمة للحقوق الوطنية، وهزت مكانة إسرائيل الاستعمارية وجيش موتها في معارك عديدة، أهمها معركة الكرامة في مار/ آذار 1968، ومعركة 1972 في العرقوب، ومعركة قلعة شقيف 1978، واجتياح لبنان في يونيو 1982، والانتفاضة الكبرى 1987/1993. وبالتالي الرد الإستراتيجي على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيأتي لاحقاً، وسيكون مختلفاً ونوعياً، رغم واقع حال الأمة العربية وشعوبها راهناً. وبالمناسبة لم يكن واقع الشعوب العربية في خمسينيات القرن الماضي أفضل حالاً من الآن. ومن يقرأ الواقع بما هو عليه راهنا، يكون ساذجا ومغفلا، ولا يرى ابعد من أرنبة أنفه. فالشعوب عندما تستعيد عافيتها في لحظات النهوض الوطني والقومي تجرف في طريقها كل عوامل الضعف والتبعية والهوان. ولا يمكن قراءة الواقع العربي بما حملته ثورات الربيع العربي، التي تمكنت أميركا وإسرائيل من دس عناصرها ومنظماتها التكفيرية وجماعة الإخوان المسلمين لبسط نفوذها على توجهاتها الوطنية والقومية والديمقراطية، وحرفت اتجاه بوصلتها عن خياراتها الصحيحة. وقادم الأيام كفيل بالرد على السياسة الأميركية والإسرائيلية المعادية للمصالح الوطنية والقومية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها