تتصاعد التصريحات ذات الحمولة العالية من النفَس التفاؤلي سواء من حركة التحرير الوطني الفلسطيني- "فتح أو من "حماس" ما يشير للسعي الايجابي الطيب الذي يتداخل اليوم مع أجواء شبه احتفالية بالمصالحة الوطنية على إثر اكثر من 10 سنوات عجاف من الانقلاب الدموي على غزة.

وفي هذا السياق لا بد من أن نشير -وكما فعلنا سابقا بأكثر من مقال- الى التغير الحاصل في الخطاب الحمساوي كما ظهر بالنسبة لنا بتصاعد تيار الاقتراب والتواصل والوحدة على حساب تيار الافتراق والاقصاء والتشرذم بالساحة الفلسطينية عامة، وفي داخل "حماس"، فنحن إذ نقدر عاليا الأصوات القلِقة من تدهور الحال والتي لطالما كان بمقدمتها د.أحمد يوسف ود.مصطفى اللداوي وغازي حمد ود.ناصر الشاعر فان العديد مما طرحوه وفي انتقاداتهم للمسار السلبي كان لها بلا شك دورا في إضعاف عقلية الفزعة والعصبوية وتحقير الآخر وتخوينه التي غلّفت مسيرة العديد من نواطق "حماس" في مرحلة نتمنى أن تكون نهايتها اليوم.

ان نمو عقلية الاقتراب والوحدة على حساب عقلية التشرذم المصلحية كانت تسير بالتوازي مع العديد من المعطيات الداخلية والاقليمية والخارجية بحيث أن فكفكة المسار بربطه بعامل واحد لن تكون صحيحة، والحقيقة تكمن بالإرادات ونمو تيار الاتجاه نحو الداخل مقابل تيار الأسر للخارج.

بلا شك أن سنوات من الممارسة اللاديمقراطية في قطاع غزة، والتضييق على شعبنا والعدوان الصهيوني المتكرر عليه، وتوقف أعمال المقاومة نهائيا استجابة للتهدئة هناك، إضافة للممارسات الثقيلة للاجهزة الامنية المرتبطة بالتيار الاقصائي قد خلّفت ندوبا وجروحا كثيرة لا سيما وأن ذوي العقول العفنة المؤمنة بالاقصاء وعقلية الفسطاطين كانت تمسك بزمام الأمر وتستبيح القطاع لمصلحة امتيازاتها الشخصية والاقتصادية على رأس أم الفلسطينيين الغزيين وغصبا عنهم.

والحال هكذا لا يمكن أن يدوم لأن هذا الشعب البطل لا يقبل الظلم، ويعلن ذلك وفعلها كثيرا في غزة، فالرفض لدوام الحال بأشكال متعددة أظهرت نفسها بوضوح بقرارات "حماس" الانفعالية ضد الشعب وحاجاته في مرحلة قد نقول أنها انقضت أو نأمل كما أمِل هنية في رسالته للجماهير حين قال "نريد ان نُحيي الأمل في نفوسنا جميعا ونبني الثقة ونجسر الهوة ونتفرغ للملفات الوطنية الكبرى".

في تركيزها هنا على العامل الداخلي التعبوي في "حماس" من الممكن أن نشير لمجموعة من التغيرات الجذرية في الخطوط والتقاطعات ومراكز الثقل التي أنتجت باعلانها البارز "وثيقة حماس" في الدوحة التي أعلنها الأخ خالد مشعل، هذه الوثيقة التي ألقت جانبا بالعديد من المحرمات في التعبئة الداخلية في "حماس" او بوضوح اكثر في فكر "حماس" و"الاخوان المسلمين" أنفسهم والتي كانت ترى الآخر بمنظار الشر المستطير الى أن ضغطت الظروف الداخلية والاقليمية وكذلك الداخلية التنافسية في "حماس" فأنتجت تيارا أظن أنه يتجه نحو تعميق ثقافة التقبّل والاقتراب.

ودعني في هذه العجالة أن أرحب بخطاب الأخ اسماعيل هنية في 30/9/2017 والذي بلور فيه طبيعة التغيير الحقيقي في "حماس" حين قال بكل وضوح أن الرغبة في "حماس" ترتبط بتحقيق عدة عومل هي هامة فعلا وتعلن كما أقرت وثيقة "حماس" القطيعة مع العقلية القديمة، إذ قال: "1-قررنا تفعيل الاستراتيجية التي تؤمن القدرة الحقيقية لشعبنا من خلال تجميع قواه وأوراقه وعناصر قوته" مضيفا " و2-تعايش البرامج" رادما فكر الفسطاطين/المعسكرين وصولا الى "3- وتكامل الأداءات لنجتاز المرحلة الاخطر في تاريخ الصراع مع المحتل" ورادما فكر أننا نحن المقاومة وحدنا، ومقررا بلا لُبس انحيازه للنظام الديمقراطي المدني حين قال أنه معني بتحقيق المصالحة "5-لاعادة الحياة السياسية والحريات واحترام التعددية والعمل المؤسساتي والأمن الوظيفي" ولأن "6- المصالحة قائمة على وحدة الضفة والقطاع وعدم الفصل بينهما".

وبعد تعداد هنية لانجازات أو تنازلات "حماس" كما يرى يدعو "7-لترسيخ مبدأ الشراكة في كافة المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية وفِي المرجعيات القيادية لشعبنا في الداخل والخارج" مشيرا لعلانية رغبته الدخول الى منظمة التحرير الفلسطينية والشراكة في كل شيء، وهنا المفصل الذي قد يحمل بذورا خطرة في عقلية الانقلابيين ومعسكر الفرقة في الوطن.

ان الخروج الحمساوي من قمقم الانغلاق على الذات وعلى صلاح الفكرة المكتفية بذاتها دون غيرها ما كان يفعّل معادلة تصنيف الآخر خارج المعسكر الايماني أو الوطني بدأت تتداعى منذ فترة ليست قريبة، ولا شك أن تأثيرات المنطقة كان لها الدور الكبير دون تفصيل في ذلك (أدرك هنية بخطابه ذلك فقال: البيئة الوطنية والإقليمية والدولية تغيرت فضلا عن الرعاية المصرية القوية) خاصة ولدينا نموذج د.راشد الغنوشي المتميز في تونس الذي انحاز للوطن على حزب الحزب بل وقطع شوطا كبيرا بفصل الدعوي الحزبي عن السياسي الديمقراطي وهو ذات الحال في المغرب.

لطالما تحدثنا وكتبنا عن معادلة المصالحة أنها تبدأ بمد جسور الثقة، والتنازل عن هيلمان السلطة الخلّبية لا سيما ونحن تحت الاحتلال، وهناك من القضايا الكبرى ما يجمعنا وفي مقدمتها تحقيق الاستقلال الوطني لدولة فلسطين تحت الاحتلال.

ونحن إذ نخوض حربا شرسة ضد المحتل الاستعماري ما كان يحزّ في أنفسنا ويجرح حناجرنا، ويطعن في ظهورنا هو تنامي عقلية الاقصاء المرتبطة بفكر المعسكرين/الفسطاطين مقرونة بالتصريحات النارية التي جعلت من الثقة معدومة، كما جعلت من النظر للآخر مرتبطة بالسواد فقط، ومن زوايا ميتافيزيقية لا علاقة لها بواقع المجتمع والأمة، وقلنا أن مد جسور الثقة يرتبط بالتوقف عن سياسة التشاتم والاتهامات والطعن التي تم تسويد كثير من الوجوه بها، وكثير من الصفحات الورقية والالكترونية والفضائية ، ولا يبقى لاكتمال المعادلة الا توفر الإرادات الحقيقية والتي يحدونا الأمل لتوفرها دون إبطاء وإن غدا لناظره قريب.