ترجل رجل شجاع عن المشهد الثقافي والسياسي اللبناني، رحل الفنان والمخرج جان شمعون عن ثلاثة وسبعين عاما بعد رحلة عطاء قدم فيها إسهامات جليلة للفن السابع وللقضايا الوطنية اللبنانية والعربية عموما والفلسطينية خصوصا والعالمية من خلال إخراجه للعديد من الأفلام الوثائقية والروائية، بالإضافة لبعض البرامج الإذاعية، التي تركت بصمة قوية في حياة الناس.

شمعون الوطني التقدمي بإمتياز، حمل هموم وقضايا لبنان وفلسطين وحركات التحرر في العالم اجمع دون تردد، إنحاز لخياره الديمقراطي، من خلال رفضه للنزعات الإنعزالية البغيضة، التي نمت في اوساط القوى السياسية اليمينية، التي تاجرت ب"الدفاع" عن المسيحيين عموما والموارنة خصوصا، للتغطية على إرتباطهم بمخططات أميركا وإسرائيل وأضرابهم من الإستعماريين والرجعيين في المنطقة عبر ولوج وتنفيذ المشاريع المشبوهة، وتمسكه ببناء وطن ديمقراطي حر شريك اساسي في الدفاع عن قضايا العرب القومية وخاصة قضية العرب المركزية.

ولعل من اهم ما قدم جان شمعون للبنان وفلسطين والتاريخ، انه وثق للحرب الأهلية على مدار الخمسة عشر عاما من 1975 حتى 1990، بالإضافة إلى إخراجه العديد من الأفلام بالشراكة مع اقرانه من الفلسطينيين، ومنهم المخرج المرحوم مصطفى ابو علي، والمخرج الإيطالي بنيو أدرياني، حيث ساهم ثلاثتهم في إخراج فيلم "تل الزعتر" الوثائقي عام 1976، الذي قدموا من خلاله شهادة حول المجزرة، التي أرتكبت بحق الفلسطينيين واللبنانيين على يد حزبي الكتائب والأحرار والقوات اللبنانية وغيرها من القوى الإنعزالية.

وتشارك مع رفيقة دربه، مي المصري الفلسطينية بإخراج العديد من الأفلام، منها: "بيروت .. جبل الحرب" عام 1989 و"أحلام معلقة" 1992، و"تحت الأنقاض" عام 1982، وفيلم "زهرة الجندول" عام 1985، وفيلم "إنشودة الأحرار" 1978، الذي عالج فيه قضايا حركات التحرر ضد الإستعمار والنظم الديكتاتورية في القارات الثلاث : افريقيا واسيا واميركا اللاتينية، أضف لذلك اخرج فيلمه الروائي  الأول "طيف مدينة" عام 2000. كما قدم مع زياد الرحباني برنامج إذاعي مع توزيع موسيقي بعنوان "بعدنا طيبين .. قول الله"، الذي مازال يعيش في ذاكرة ابناء الشعب اللبناني واشقاءهم الفلسطينيون.

الراحل شمعون تمثل قضايا شعبه وأمته بإقتدار، وسعى بشكل حثيث على مواكبة نبض الشعب اللبناني وإشقائه الفلسطينيين. حيث كانت فلسطين تحتل مكانة مركزية في أعماله وإهتماماته الفنية. ولم يهادن شمعون في خياره الفني والثقافي والسياسي. ولهذا حاز ابن البقاع اللبناني على العديد من الجوائز في مهرجانات فالنسيا وقرطاج ودمشق، ومهرجانات الفيلم التسجيلي، أضف إلى انه حاز على جائزة "لوكينو فيسكونتي" الإيطالية عن مجمل اعماله الإبداعية.

وللمكانة والقيمة الفنية الرائدة، التي تميز بها جان شمعون، ولحمله راية فلسطين وهمومها، فإن الضرورة تحتم على القيادة الفلسطينية وجهات الإختصاص وخاصة وزارة الثقافة والتربية والتعليم العمل على الآتي: اولا تكريم الراحل ومنحه وساما يليق به وبإعماله السينمائية المتميزة؛ ثانيا إطلاق إسمه على أحد المراكز الثقافية او الميادين او المدارس؛ ثالثا إقامة فعالية فنية عنوانها عرض افلامه في متحف محمود درويش او القصر الثقافي؛ رابعا يتم التعريف بشخصية ودور الفنان والمخرج المبدع في مساق تربوي حسب ما ترتأيه وزارة التربية والتعليم.

نعم رحل جان شمعون جسدا عن مسرح الحياة، لكنه مازال حيا بيننا، يلملم جراحتنا اللبنانية والفلسطينية والعربية عموما وحتى العالمية. وستبقى اعماله الفنية شاهدا على حضوره الدائم بيننا. لم يرحل، ولم يمت جان شمعون، وإن فارقنا.