بقلم: رفعت شناعة
إنَّ ما شهده لبنان من إنفجارات يدمي القلوب، ويرعب النفوس، ويجعلنا نحن الفلسطينيين نضع أيدينا على قلوبنا لأن استمرار هذا المشهد المأساوي إنسانياً ومجتمعياً، والتدميري سياسياً ووطنياً، سيضعف القضية الفلسطينية، وينالُ من زخمها، ويُفقدها أهم الساحات التي تتنفس منها.
إنَّ لبنان بالنسبة للشعب الفلسطيني ليس مجرد قطر عربي وإنما هو توأم في الكفاح والمقاومة، هو رفيق دربٍ وخندق، والعلاقة بين الشعبين أسمى من المقاييس المعتادة بحكم التضحيات التي شهدناها.
إنّ المخاطر التي تهدد لبنان في هذه المرحلة، وتستقوي بالعنف الأسود على وحدته، وديمقراطيته، وتاريخه هي في الواقع تهدد الشعب الفلسطيني في مخيمه، وأمنه، ومستقبله، وقضيته، ونحن لا نقيس الأمور بالمقاييس المعتادة جغرافياً أو سياسياً، قرباً أو بعداً، فالدم واحد، والمُصاب واحد، والانفجارات التي طالت جامعي التقوى والسلام هي فعلياً طالت أهالي مخيمي البداوي والبارد وعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في مدينتي طرابلس والميناء الذين يصلّون في هذه المساجد. وأيضاً: الانفجارات التي طالت منطقتي بئر العبد والرويس في الضاحية وأوقعت المئات من الشهداء والجرحى هي في واقع الأمر طالت أهالي مخيمات بيروت في برج البراجنة وشاتيلا ومار الياس، والآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في بيروت خارج المخيمات.
نحن ندرك تماماً بأن نار العنف عندما تشتعل فمن الصعب أن تنطفئ، ولعلّ الأشد حريقاً واحتراقاً هي نار الأحقاد والضغائن والتي يعبِّر عنها المستفيدون منها ومن استمرارها عبر تفجير السيارات، وإعداد العبوات، وتفخيخ القذائف والقنابل، ووضعها في الأسواق، وأمام المساجد، والمدارس، واستهداف المارة بلا رحمة ولا شفقة.
إنَّ العدو الإسرائيلي وحدَه هو الذي صفَّق مبتهجاً لرؤية جُثث الاطفال والنساء والشيوخ تتطاير متقطعةَ الأطراف، ورؤية ذويهم تتقطعُ قلوبهم ألماً وحزناً، وبالتالي نحن نتساءل ما ذنبُ المصلين روَّاد المساجد من رجال ونساء وأطفال حتى يتمَّ استهدافُهم والانتقامُ منهم، وتمزيق أجسادهم، ولمصلحة من يجري كل ذلك؟!
كما نتساءَل أيضاً لماذا تمّ استهداف المارة سواء أكانوا متسوقين، أم طلاب مدارس أم أبناء الحيِّ من أطفال ونساء وشيوخ؟!
لا شكَّ أنَّ من خطَّط ومن نفَّذ، كلاهما يعرف من ستكون الضحية، وكيف ستكون النتائج، وهو يدرك تماماً أنَّ الدم سيجرُّ دماً، وأنَّ العنفَ سيجرُّ عنفاً، وأنَّ الفتنة المذهبية أو الطائفية كفيلةٌ بإحراق الوطن، وأنَّ لا منتصرَ حتى لو انتصر، لأنَّ المنتصرَ الأول هو عدوُّ شعبِنا وأمتنا، هو الذي يديرُ الفِتن في أوطاننا، هو العدو الاسرائيلي الذي لا يقوى على الوجود والبقاء إلاّ عبر إشعال الفتن والصراعات والحروب.
نحن ومن منطلقاتنا الوطنية والقومية نريد للبنان أن يكون قوياً، ومتماسكاً، وموحّداً بكل أبنائه، فهو الموقع المتقدم المدافع عن القضية الفلسطينية. ولأنَّ أمننا من أمنه فقد حضر الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى لبنان في أدق الظروف كي يلتقي الجميع، وكي يقول للجميع، نحن معكم، ومع وحدتكم، وجيشكم، وسيادتكم، ولن نكون إلاّ مع استقرار وأمن لبنان، ومخيماتُنا لن تكون إلاّ جزءاً من الجوار، ومن السلم الأهلي في لبنان، وتسعى إلى أن تكون دائماً عامل وئام واطمئنان.
لا يستطيع لبناني أصيل مسلماً كان أو مسيحياً، سنياً أو شيعياً أو درزياً، قومياً أو أممياً إلاّ أن يستنكر ما حدث من تفجيرات دموية، وعُبوات مدججة بمواد الـ(ت.ن.ت) المتنقلة لأنها طحنت الاطفال والنساء والشيوخ والشباب، وكان الأولى بها أن تستهدف تجمعاتٍ للجيش الإسرائيلي أو المستوطنين الصهاينة الذين يقتلون أهلنا في فلسطين ويعتدون على المساجد والكنائس. وأنا أسأل ما الفرق بين المستوطنين الحاقدين الذين يحرقون ويعتدون على المساجد والكنائس هناك في فلسطين، وبين من يضع العبوة الناسفة أمام المسجد أو المدرسة أو داخل السوق المكتظ بالمارة؟؟!! ألا تشعرون أنَّ القيم غابت، وأن المشاعر الإنسانية تَجمَّدتْ، وأن المعايير دُمِّرت، وأنَّ خلطاً رهيباً بين المفاهيم قد سيطر عليها. ولو سألتني من الذي وضع العبوات، وأحكمها مكاناً، وزماناً، وتوقيتاً، وتصويباً لقلتُ لك دون تردد: إنه نتنياهو. ولا أستطيع أن أقول غير ذلك، لأن العقل المدِّبر، واليد المنفِّذة التي تدرك ماذا تفعل، وتصرُّ على فِعلها تحمل ذاتَ الأحقاد والمفاهيم.
نحن نرى ومن موقع المسؤولية، والحرص على العيش المشترك، وحماية لبنان المُستهدَف، ووقف النزيف في الجسدين الفلسطيني واللبناني أن نغلق أبواب الفتنة بوجه صُنَّاعها، والمعتاشين من مخلفاتها، وأخْذِ زمام المبادرة من الذين يريدون العبث باستقرار لبنان، وتدمير اقتصاده، وإنهاك قواه، وفكِّ اللحمة بين أبنائه، وتقاسم لبنان الكبير في وحدته وعطائه وحضارته، ومقاومته للاحتلال، وانتصاره لفلسطين، ورسالته التاريخية إلى العالم من أجل تقزيمه.
إنَّ تجار الفتنة ومشعليها ما كانوا لينشطوا في تقديم أبشع صُور العنف والجريمة إلاّ عندما رأوا الخلافات السياسية تحتدم بين الأفرقاء. وأن أبواب الحوار تُوصَد، وأنَّ الفرز يتَّسع، وأنّ التعبئة والتحريض والتجييشَ هيمن على الشوارع والنفوس، وقد غاب العقل والضمير والمنطق.
إنَّ المخرج الوحيد من هذا المشهد المؤلم، ومن هذه الأزمة المدمِّرة أن يعود الجميع إلى لغة الحوار، والبحث عن القواسم المشتركة، وإيجاد المخارج والحلول للإشكاليات القائمة التي تزداد تعقيداً مع غياب العقلانية. ولا شك أن لغة التراشق الاعلامي، ولغة التخوين والتحريض، ولغة القطيعة والاختراق، أو تسخين الخلافات والنعرات، كل هذه اللغات لا يمكن أن تؤسس للغة التفاهم والتحابب والحوار. المهم ونحن أبناء الوطن الواحد أن نعضَّ على الجراح، وأن نكبرَ على المآسي، وأن نتغلّب على العوائق، وأن نفعِّل لغة العقول، وأن ننتصر لمصالح الوطن، وأن نصون الدماء الزكية حتى لا تُهدَر بأبخس الأثمان، وأن ننزع الغلَّ والأحقاد من نفوسِنا ونفوس الأجيال.
عندما تستعد القوى السياسية على اختلافها في لبنان لأخذ القرار بالحوار على أرضية وحدة لبنان وشعبه وأرضه، عندئذٍ تتوقف أدوات الشر والجريمة عن إرسال بضائعها الفاسدة والقاتلة إلى أسواقنا وشوارعنا ومدارسنا ومساجدنا، لأنها لن تجد نوافذ تدخل منها، وطالما أن الحوار والتفاهم ممنوعٌ، فإنَّ العنفَ سيحصدُ المزيدَ من الأرواح، وسيُدمّر البلاد والعباد، فمن الرابح؟ ومن المسؤول؟!
وإذا تساءَلنا هل الأمل مقطوع من التفاهم؟!
الجواب: إنّ الواقع وأيضاً التجارب أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ القيادات اللبنانية تتمتع بالوعي السياسي الكافي، والدراية الكاملة بما يحيط بلبنان، والخبرة العالية بالحوار، والقدرة على إيجاد القواسم المشتركة، والتفكير الجدي بمخارج للأزمات، والتجارب السابقة أثبتت ذلك إبتداء من اتفاق الطائف، مروراً باتفاق الدوحة. الحل بأيدي القيادات اللبنانية، وهذا هو المنطق، وهذا هو المدخل طالما أنَّ لبنان أكبر من ألأحزاب والتعصبات، ويجب أن يكون أكبر من المؤامرات.
أمام هذه المحنة التي تهدد لبنان وأهله لن نرضى إلا أن نكون العامل المساعد، والشقيقَ الوفي لدرء الفتنة، وإبعاد المخاطر، ونحن في مخيماتنا ندرك تماماً حجم المهام الملقاة على عاتقنا في المجال الأمني تحديداً، إدراكاً منا لحساسية القضايا الأمنية، وإيماناً منَّا بأنَّ حماية لبنان مهمة لبنانية فلسطينية مشتركة. نسعى قيادةً وشعباً في لبنان لتحصين مخيماتنا، وحمايتها، والتدقيق في أوضاعها، والسهر على أمنها، والتعاون مع الجهات الأمنية لمعالجة كافة الثغرات، واتخاذ الإجراءات المسؤولة لأننا نتحمل المسؤولية أمام أهلنا، وأمام الدولة اللبنانية التي تستضيفنا.
إنَّ اهتمامنا بهذا الجانب يجعلنا نقول وعلى الملأ بأنَّ أمن لبنان واستقراره يُعتبر من الأسس التي تساعدنا كفلسطينيين في الكفاح من أجل تنفيذ حق العودة إلى أرضنا التي طُردنا منها العام 1948.
نسعى بكل ما نملك من أجل أن تظلَّ المخيمات قاعدة شعبية من قواعد "م.ت.ف"، وسنداً قوياً للعلاقات الحميمة اللبنانية الفلسطينية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها