بقـلم/ صقر أبو فخر
توقفت المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية منذ نحو ثلاث سنوات، وبالتحديد في تشرين الأول/ أكتوبر 2010، بعد قرابة ثمانية عشر عاماً من التفاوض الشاق والمرّ، والذي لم يصل إلى خواتيمه الايحابية في أي حال. ومنذ ثلاث سنوات شرع الفلسطينيون يخوضون معركة الدولة الفلسطينية في مجلس الأمن أولاً، ثم في الجمعية العامة للأمم المتحدة ثانياً. ويبدو الموقف الفلسطيني العام، إذا نظرنا إليه نظرة أرشيفية، مرتبكاً ومضطرباً ومتناقضاً. ففي البداية منحت القيادة الفلسطينية المفاوضات أولوية تامة حتى على السياسة والمقاومة. ثم أوقف الرئيس أبو مازن المفاوضات وقال إنه لن يعود إليها إلا بعد وقف الاستيطان على الأقل، ثم عاد إليها ولم يتوقف الاستيطان.
ما السر في هذه العودة إذاً؟ السر هو أن ثمة ترتيبات سياسية ذات طابع استراتيجي بدأت تجري في المنطقة العربية بمعزل عن قضية فلسطين، وأن قضية فلسطين ما عادت القضية الرئيسية في المنطقة العربية، ولا سيما مع انخراط حركة حماس في المشروع الاخواني للوصول إلى السلطة في بعض البلدان العربية، مع العلم أن الإخوان المسلمين ليسوا بعيدين عن السياسة الأميركية في شرق المتوسط. وظهر في الحقبة القريبة الماضية أن الفلسطينيين متروكون في العراء، وأن العالم العربي كله يمر بمرحلة من الفوضى العارمة، ولا وزن سياسياً له ليشد أزر الفلسطينيين ويقوّي موقعهم في مواجهة اسرائيل، حتى إن مسؤولاً عربياً بارزاً لم يتورع عن القول إن العالم ضجر من قضية فلسطين. ولعل هذه الاحوال كلها معاً جعلت القيادة الفلسطينية تعود الى المفاوضات كي يكون لفلسطين موطئ قدم في التحولات الجارية اليوم في العالم العربي، على الرغم من الغموض والشكوك التي غلّفت عملية العودة الى طاولة المفاوضات.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية تستعد لمواجهة اسرائيل في الأمم المتحدة وفي منظماتها الدولية البارزة كالأونيسكو في الخريف المقبل، وكان قرار الاتحاد الأوروبي في تموز/يوليو 2013 الذي ينص على مقاطعة منتوجات المستوطنات الاسرائيلية مؤشراً إلى أن الاتحاد الاوروبي سيدعم الموقف الفلسطيني في ملاحقة اسرائيل في الأمم المتحدة ومنظماتها، وفي محكمة الجنايات الدولية. وهنا بالتحديد مارست الولايات المتحدة الأميركية ضغطاً متمادياً ومزدوجاً على القيادة الفلسطينية لقطع الطريق على هذه المواجهة، وعلى الحكومة الاسرائيلية كي لا تتخذ أي إجراء من طرف واحد فالقيادة الاسرائيلية الحالية باتت مقتنعة بأن بقاء الأوضاع الراهنة في الأراضي الفلسطينية على ما هي عليه صار من المحال، ولا بد من أن يختار الاسرائيليون واحداً من أمرين: إما التوصل الى اتفاق شامل مع الفلسطينيين، أو الحل من طرف واحد. والحل من طرف واحد يعني ان يصوغ الاسرائيليون مع الأميركيين خريطة جغرافية لاسرائيل، وينفذانها على الأرض بمعزل عن الفلسطينيين. وهذا هو دافع إضافي للقيادة الفلسطينية كي تعود إلى المفاوضات. والمعروف ان إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الاسرائيلية الأسبق، كان يؤمن بإمكان التوصل إلى تسوية شاملة مع القيادة الفلسطينية، بينما كان أريئيل شارون يؤمن بأن من المحال التوصل إلى مثل هذه التسوية، وأن من الأفضل لإسرائيل الانصراف الى حل من طرف واحد. وبنيامين نتنياهو ومعه تسبني ليفني هما من خط أريئيل شارون تماماً.
يمكن القول في هذا الميدان ان استئناف التفاوض لم يأتِ بالرضا التام، أكان من الجانب الفلسطيني أو من الجانب الاسرائيلي، بل جاء نتيجة الضغط المزدوج الذي مارسه الأميركيون على الفلسطينيين والاسرائيليين معاً. لذلك فإن فرص نجاح هذه المفاوضات ضئيلة، إلا إذا فاجأتنا الأيام بغير ذلك.
السؤال الآن: ماذا نال الفلسطينيون لقاء تأجيل المواجهة في الأمم المتحدة؟ وما هو حساب الأرباح والخسائر للأطراف كلها؟ ويمكن، بقليل من إمعان النظر، القول إن دولة فلسطين ربحت إطلاق 124 أسيراً، أو الوعد بإطلاق هذا العدد من الأسرى، والوعد بمساعدات مالية ربما تصل الى أربعة مليارات دولار، والتفاوض على جميع قضايا الحل النهائي، أي الحدود والسيادة والقدس واللاجئين والمياه... الخ، مع أن ورقة الدعوة الأميركية إلى التفاوض لم يتم كشفها حتى الآن، ولكن جرى تسريبها إلى الصحافة. وفي المقابل قدمت القيادة الفلسطينية لقاء ذلك عدم الذهاب، في هذه المرحلة، إلى الأمم المتحدة أو محكمة العدل الدولية، وعدم اشتراط وقف الاستيطان في أثناء عملية التفاوض. أما إسرائيل فنالت العودة إلى التفاوض من دون تجميد الاستيطان، ومن دون ذهاب منظمة التحرير إلى الأمم المتحدة. وقدمت لقاء ذلك إطلاق سراح عدد من الأسرى، والتفاوض على أساس حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 من دون إعلان التزامها هذا الشرط. أي أن كل طرف نال سلباً ما قدمه الطرف الآخر. وهذه المفاوضات ستستمر تسعة أشهر (المعدل الطبيعي للحمل عند المرأة)، وليس من المؤكد أن تلد اتفاقاً شاملاً، فإسرائيل تريد أن تناقش الأمن والحدود الآمنة لإسرائيل والدولة المنزوعة السلاح أولاً، بينما المفاوض الفلسطيني يريد أن يناقش حدود الدولة الفلسطينية(حدود 4/6/1967) والقدس واللاجئين أولاً. وبعد ثلاث جولات من المفاوضات التي بدأت في واشنطن في 29/7/2013 (الجولة الثانية في القدس في 14/8/2013) لم يكن المفاوضون ( مارتن إنديك وتسبني ليفني وصائب عريقات) قد اتفقوا على جدول أعمال واضح. والواضح الوحيد حتى الآن أن هذه المفاوضات إنما هي هدنة سياسية مديدة، وكل طرف ينتظر ما ستؤول إليه الأوضاع في العالم العربي كي يقرر مواضع قدميه. وليس من المتوقع، في أي حال من الأحوال، التوصل إلى اتفاق شامل، بل المتوقع، على الأرجح، الضغط لتمرير خطوات انتقالية تحول دون انفجار الأوضاع الفلسطينية في وجه الاحتلال، وستعرض تسبني ليفني عروضاَ كثيرة غير مقبولة على الفلسطينيين كي يأتي الرفض منهم، الأمر الذي يخلّص اسرائيل ولو دعائياً من التأفف الأوروبي. ويخشى أن تتمخض المفاوضات عن فشل تام، ما يجعل إسرائيل تبادر الى ضم 40% من مساحة الضفة الغربية اليها، ما يعني قيام "دولة موقتة" على المساحة الباقية من الضفة الغربية، مع بقاء قطاع غزة خارج المجال الوطني لقضية فلسطين. وفي هذه الحال ستصبح فكرة "الفيدرالية الفلسطينية" معروضة على أنقاض قضية فلسطين التي ظلت طوال ستين عاماً تجمع الشعب الفلسطيني في شتاته كقضية واحدة تعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني كله، أكان تحت الاحتلال أو في الشتات أو في أراضي 1948.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها