عند استشراف المراقب للموقف الإسرائيلي من عملية السلام، لا يكفي التأكيد على رفض حكومة نتنياهو لخيار السلام، والعمل على تأبيد الاستيطان الاستعماري، ونفي وتبديد القضية والشعب الفلسطيني. لان الشق الأخير بات مستحيلاً على أقصى غلاة اليمين الصهيوني المتطرف. لاسيما وان الشعب الفلسطيني وقيادته أصلوا وعمقوا روايتهم، وحققوا الكثير من الإنجازات على الصعد المختلفة وأبرزها الدولي. ولاقى خطابهم السياسي تجاوباً وتفهماً أممياً عاليا، كما وساهم في فضح وتعرية الخطاب والرواية الإسرائيلية، المعروفة أصلا لأقطاب الغرب الرأسمالي حقيقتها، ولديهم كل الوثائق الدامغة على إفلاسها وهشاشتها وعدم صحتها. وبالتالي يفترض بشكل دائم قراءة التطورات السياسية الجارية في ضوء المتغيرات السلبية والإيجابية، وتأثيراتها على عملية السلام.

حقائق راسخة أكدتها التطورات السياسية منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو في أيلول 1993، منها: أولاً هي عدم وجود قيادة إسرائيلية مؤهلة لصناعة السلام؛ ثانياً في حال تجرأ احد القيادات للإقدام على خطوة ما قريبة من الجدية تجاه حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، يتم قتله، كما حصل مع رابين في نوفمبر 1995، أو اعتقاله بتهمة التزوير، كما حصل مع أولمرت؛ ثالثاً إنعدام الرؤية الإسرائيلية تجاه عملية السلام، فهي تعيش حالة صراع حاد بين الثابت في مشروعها الصهيوني بإنجاز مرحلته الثانية، التي تقوم على بناء إسرائيل الكاملة على ارض فلسطين التاريخية، وبين إيجاد صيغة ما للتسوية السياسية، لأن الوقائع والضغوط الفلسطينية والعربية والدولية، لم تعد تسمح لإسرائيل إسقاط خيار التسوية السياسية وتحديدا حل الدولتين على الرابع من حزيران 67، رغم عدم وضوح الرؤية الأميركية حتى الآن؛ خامساً نتاج هذا الصراع والقلق وتشييد الخطاب الأيديولوجي الصهيوني المتطرف، نحو القيادات الإسرائيلية الممسكة بزمام الأمور نحو سياسة المماطلة والتسويف، وفي ذات الوقت المضي قدما في تعميق خيار الاستيطان الاستعماري؛ سادساً في حال بادر أي من القيادات الإسرائيلية النافذة أو حتى من أطراف المعارضة لطرح رؤية للتسوية، فإنه يلجأ لتعقيد الحل السياسي عبر وضع الشروط الأمنية بالإضافة لاختزال وشطب المبادئ الناظمة لحل المسألة الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، كالمطالبة بإسقاط حق العودة، عدم عودة القدس للدولة الفلسطينية، السيطرة الأمنية على الغور الفلسطيني لعشرات السنين، السيطرة على الثروات الطبيعية، ومواصلة فصل غزة عن الضفة .. الخ من الأفكار المتناقضة مع ركائز أي حل سياسي عادل بالمعايير النسبية.

ولو توقف المرء أمام مؤتمر العقبة السري في شباط 2016، الذي حضره نتنياهو والرئيس السيسي والملك عبد الله ووزير الخارجية الأميركي، جون كيري، سيرى أنه رفض خلاله خيار الدولتين على حدود 67. وفي ذات السياق لو دققنا في الأفكار، التي تضمنتها الوثيقة، التي  صاغها رئيس الوزراء ثم سلمها لرئيس المعارضة، هيرتسوغ في 13 أيلول 2016، أي بعد سبعة أشهر من القمة، لأمكننا ملاحظة، انه ينحو نحو الحل الاقتصادي. رغم ان وثيقته ذكرت حل الدولتين أكثر من مرة. لكن جوهرها لا يمت لبناء مداميك السلام بالمعايير الدولية والعربية. وتبين لاحقا ان الوثيقة لم تكن أكثر من مناورة من قبل رئيس الائتلاف الإسرائيلي الحاكم لكسب الوقت، وحتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في دفة الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأنه كان من المفترض ان يعلن عن وثيقته في مطلع أكتوبر 2016 في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس المعارضة الإسرائيلية، والعمل على تشكيل حكومة جديدة وبمشاركة الرئيس المصري والملك الأردني.

إذا البناء الفوقي الإسرائيلي مازال بعيدا عن دائرة السلام. ويدور في حلقة مفرغة، دون أن يوقف عجلة الاستيطان الاستعماري لشطب خيار الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967. وهو ما يتطلب موقفاً واضحاً وحاسماً من الأشقاء العرب بالتعاون مع الإتحاد الأوروبي والروسي والصين والإدارة الأميركية الجديدة لإلزام إسرائيل بالأسس، التي تنسجم مع قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، لإخراج العملية السياسية من دائرة التوهان والغموض الملتبس، الذي لا يخدم سوى المشروع الاستعماري الإسرائيلي.