افتتاحية مجلة القدس العدد 331 تشرين أول 2016

تشتدُّ العواصفُ وتنهار العواصمُ، تتلاطمُ الأمواجُ، ويحترقُ البشرُ قبل الشجر، وتتداعى معاقلُ الحقوق والقوانين والمُثُل والمبادئ، تصرخ الأنواءُ والأعاصيرُ قاذفةً حِمَم الأحقادِ والتوحُّش، والتغوُّل في أجساد البشر، فتشتعل الطوائف والمذاهب، والإثنيات وكافة المسمَّيات، وتدخل المجتمعات بكل ما فيها من عناوين الأصالة والعراقة والتراث المتجذِّر في أعماق التاريخ، في أتون نيران الأحقاد والضغائن، والقتل والتدمير، ويتشظَّى كل شيء على أعتاب الإبادة والمجهول.

وتبقى فلسطين قضيةً وشعباً رغم جراحها النازفة، ورغم الطعنات السوداء تقف على قدميها، وترفعُ رايتها، وتلملم حولها أبناءها حتى لا يضيعوا في بحر الضياع، وحتى لا تتخطَّفهم أيادي تُجّار الموت، وقراصنة التآمر والغدر، وصُنَّاع الفتن المجبولة بالدماء والألم والبكاء.

إنَّ ما يجري في الوطن العربي منذ بداية التسعينيات وحتى الآن وقتل مئات الآلاف، وجرح الملايين، والتنكيل بالمدنيين وسحقهم، وما لحقَ بالمدن والحضارات من صراعات وتنازعات ليس هو فقط ما يريده السيد الأميركي والعدو الصهيوني، وإنما هناك هدف أساسي يسعى إليه الكيان الصهيوني في هذه الظروف المريرة، وفي ظل حالة التخبُّط وفقدان التوازن، وتضييع البوصلة الوطنية والقومية العربية، وهذا الهدف هو تصفية القضية الفلسطينية، وهذا هو بيت القصيد، إنه الحلم الصهيوني الذي قطع شوطا ًعلى أرض الواقع في غفلة من الزمن.

ففي الوقت الذي تنشغل فيه الشعوب بالانتقال من مجزرة الى مجزرة، ومن لجوءٍ إلى آخر، بحثاً عن المأوى للأطفال والنساء، تنشغل الدول العربية، والأحزاب والطوائف والمذاهب بتوفير الأمن الذاتي، والقطري، وضياع الأمن القومي بين أقدام الأطراف المتصارعة، لقد فقدت الجامعة العربية قدرتها على توحيد الصفوف، أو تأمين القواسم المشتركة بين أعضائها، الجميع يبحث عمَّن يؤمِّنُ له الحماية والحصانة، ولذلك شاهدنا تحالفاتٍ غريبةً ومتقلِّبة على الصعيد الإقليمي، وحتى الدولي، ودائمًا الكيان الصهيوني يتوسَّط العقد، ويحتلُّ المكانة السياسيةَ المميّزة في الحراك الدائر حول مصير سوريا ومصير العراق.

العدو الصهيوني يريد حصته كاملةً من طبخة الشرق الأوسط، والصراع الدولي في سوريا وفي العراق وفي اليمن وليبيا، فالكيان الإسرائيلي الذي كان منضبطاً، ولم يتدخّل بما يجري حوله احتراماً للولايات المتحدة ورغباتها، هو يريد حصته خالصة كثمنٍ لموقفه الإيجابي. إنه يريد فقط رأس القضية الفلسطينية، بعد أن أشعل حرباً حرمت الشعبَ الفلسطيني من وجود السند العربي الحقيقي المشغول اليوم بالبحث عن مصيره وليس عن مصير الشعب الفلسطيني. بالنسبة للكيان الإسرائيلي هي فرصة العمر التي من الصعب أن تتكرر بالمواصفات الحالية.

بالمقابل فإنَّ الموقف الفلسطيني، وبدلاً من أن يكون متكاملاً ومتضامناً، فإنَّه للأسف يعيش حالة من الصراع الداخلي، والانقسام يتجذَّرُ في الواقع منذ العام 2007 إثر الانقلاب الذي جرى في قطاع غزة، ورغم كل الحوارات والاتفاقات التي خضناها معاً، ووقّعنا عليها معا ًإلَّا أنَّ غزة ما زالت في وادٍ، والضفة في وادٍ آخر، رغم أنَّ الشعب واحد، والتاريخ واحد، والمصير واحد، والعدو واحد.

 إنَّ الرهان اليوم هو على حركة "فتح" وقيادتها، لأنَّ حركة "فتح" هي مفجِّرة الثورة، وهي العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي حامية المشروع الوطني الفلسطيني، وهي صاحبة القرار الفلسطيني المستقل، وهي التي منذ انطلاقتها قالت لا للتبعية، لا للوصاية، ولا للإلحاق. ولأنّها كذلك فرأسها اليوم مطلوب، وأن يُقدَّم رأسُها على طبق من صناعة إقليمية، وبمباركة أميركية إلى الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة، حكومة الارهاب والاستيطان، والاعدامات الميدانية، والتهويد، فالمطلوب اليوم إسرائيلياً وبأقصى سرعة إنضاجُ المؤامرة بكل تفاصيلها، في ظل الغياب واللامبالاة من الاطراف الاساسية، وبالتالي المطلوب وحسب الخطة الصهيونية نَسْفُ حل الدولتين، والسيطرة السيادية على أراضي الضفة الغربية باعتبارها كما يدَّعون (أرض الميعاد) وأنّها تاريخياً أرضهم علماً أن قرار اليونسكو الأخير أقرَّ بأنه لا توجد لليهود أيّةُ علاقة بالقدس والأقصى. إنَّ ما يريده العدو الاسرائيلي هو أن يفرض على قيادة "م.ت.ف" الاعترافَ بيهودية دولة إسرائيل، وإسقاط حق  العودة، وحسم موضوع القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل. فالتناقض مع الجانب الاسرائيلي جذريٌّ وأساسي، والمعركة المستقبلية المطلوبة قاسية ومصيرية، وحاسمة، وهي معركة وجود، معركةُ أن نكون أو لا نكون كشعب له تاريخه، والارضُ أرضه، والمقدسات والتراب جزء لا يتجزّأ من كيانه الوطني.

ولأنَّ حركة "فتح" هي حركة الشعب الفلسطيني، وهي الحركة الوطنية التي لم تستسلم، ولم ترفع رايةَ الخضوع أو الخنوع يوماً، وهي الأكثر صراحة مع شعبها، وهي التي تحمَّلت أعباء الاجتياح والانشقاق، وأعباء الانتفاضتَين الأولى والثانية، ولم تكن في يوم من الأيام تسعى لإرضاء هذا النظام أو ذلك، وإنما هدفها دائماً  حماية منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، هي تحترم الجميع لكنها ترفض المسَّ بكرامتها الوطنية والفلسطينية.

إنَّ ما هو مطلوب من أبناء حركة "فتح" اليوم سواء في الداخل أم في الشتات أن يحموا حركة "فتح" بصدورهم، وأن يضعوها في قلوبهم، فهي عنوان كرامتهم، وعِزَّتهم، وهي منبع الأصالة الوطنية التي زرعَ نبتتَها الرمز ياسر عرفات، وسقاها الشهداء بدمائهم، ورعاها الأسرى بصمودهم ومعاناتهم، هذه النبتة التي تُظلِّل مسيرتنا الثورية، يرعاها اليومَ حاملُ الأمانة، وحارس الثوابت الوطنية الرئيس محمود عبّاس، إنها تشكِّل الدُشمة المحصَّنة في الخندق الأمامي بمواجهتها العربدةَ الصهيونية، والعنصريةَ البغيضة، ورعاةَ الارهاب، وأمراءَ الأبرتهايد.

ولأنَّ سيادة الرئيس أبو مازن يرفض وما يزال كافة الضغوطات الأميركية والأوروبية والعربية، ومصرٌّ على الحقوق الوطنية الفلسطينية، ويرفض المساومة على الحقوق علناً وفوق الطاولة، ويصمد أمام الحصار المالي والاقتصادي الذي فرضته دول العالم، بما في ذلك بعض الدول العربية فهو اليوم أصبحَ الهدفَ والمرمى لكل سهام الغدر والحقد والضغينة، والتآمر من أجل إسقاطه، واعدامِه سياسياً، أو تصفيته جسدياً كما فعلوا بياسر عرفات. فنحن قادتنا لا يموتون إلَّا واقفين، (نموت واقفين  ولا نركع) منذ أن نشأنا، وسنبقى، فنحن لا نبيع ولا نشتري في القضايا الوطنية.

 نقولها بصراحة لكل أبناء حركة "فتح" المؤمنين بها؛ قيادةً وبرنامجاً سياسياً، وتاريخاً نضالياً، عليكم أن تكونوا اليوم أشدَّ بسالةً وعنفواناً في الدفاع عن حركتكم الرائدة، فالرهان كله عليها، وعليكم أن تصدوا السهام المسمومة، وطعناتِ الغدر، متسلِّحين بالإيمان والقناعة والتفاني، لأنَّ حركة "فتح" هي آخر حصن وطني لنا. لقد حملتكم حركةُ "فتح" ما يزيدُ على خمسين سنة، وسهرتْ عليكم، وحمتكم من الغدر، والتصفيات، وصنعت منكم رجالاً بزُّوا كلَّ الرجال، فكنتم أمراءَ القتال، وقادةَ الميادين السياسية والإعلامية، والأمنية، قدَّمتم خيرةَ الشهداء، فالمطلوب منكم اليوم أن تحملوها، وأن تصونوها، وأن تبلسموا جراحها، وأن تمنحوها قوَّتَكم كي تجدِّدوا شبابَها، وليس أمامكم من خيار آخر إذا كنتم أوفياء للشهداء. وعليكم أن تتعاملوا مع حركتكم بوضوح وليس باللون الرمادي، لأن اللونَ الرمادي عند الأزمات هو صانعُ المؤمرات.

لقد اشتدَّت الهجمة استعاراً عندما قرَّرنا عقْدَ مؤتمرنا السابع واستشاط الحاقدون غضباً، وثارتْ نقمةُ وأحقادُ المتربّصين بحركة "فتح"، فهم ظنوا أن سهامهم ستقضي عليها، من أجل أن يقِّدموها صريعةً على طبق من فضة إلى نتنياهو وفريقه الصهيوني، كما سبق لقتلة النبى يحِيى عليه السلام أن قطعوا رأسه وقدّموه هديةً لإرضاء أسيادهم.

عَقْدُ المؤتمر السابع هو قِمّةُ التحدي لصنَّاع المؤامرة، وهو بيت القصيد اليوم، كي يكون هو المخرج من الأزمات الكامنة، وهو الضامن لوجود حركةٍ موحَّدة متضامنة على قلب رجل واحد، تسودها الحياة الديمقراطية التي تحترم البرنامج السياسي، وتلتزم الأصولَ التنظيمية، وتُؤتَمن على أسرار الحركة، وترفض البيعَ والشراء في المواقف مقابل الأموال أو المواقع، أو المصالح الخاصة.

المطلوب اليوم من الفتحاويين كافةً أن يحسموا أمورهم أذا أرادوها رائدةً لهم، وعليهم أن يقرأوا التاريخ، وأن يتعلّموا من التجارب، فتجربة الانشقاق التي حصلت العام 1983 على أرضية أن هناك فساداً في "فتح" ياسر عرفات، انتهت بأن اختار هؤلاء تشكيل تنظيم جديد، ومروا بتجربة صعبة ولم تكن لصالحهم، أمَّا حركة "فتح" الأم فقد نزفت دماً، وعانت، لكنها انطلقت وواصلت مسيرتَها، وها هي اليوم تصنع التاريخ الفلسطيني من داخل فلسطين، وكثير من الكوادر الذين انفصلوا عن "فتح" عادوا إليها، وهم اليوم قيادات مركزية. ونحن اليوم نقول لكل مَن يسعى إلى تكرار التجربة السابقة إنَّ حركة "فتح" الأم بقيادتها الراهنة، وزعيمها محمود عبّاس، وبمَن يختاره المؤتمر السابع سيكون الجيمع صفاً واحداً في وجه أي محاولة تخريبيّة داخل الحركة، فعنوان حركة "فتح" الحالي واضح: هو محمود عبّاس أبو مازن، فمَن أَراد البقاء فيها عليه أن يكون وفياً ومخلصاً لشهدائها، ولقيادتها، ولبرنامجها السياسي، ومَن كانت "فتح" لا تعجبه فبإمكانه المغادرة، واختيار التنظيم الذي يريد بعيداً عن حركة "فتح" التاريخية وجسمها الأصيل، لكنَّ قيادة حركة "فتح" لن تقبل أبداً امرأةً على ذِمّة رجُلَين. وحركة "فتح" اليوم معنيَّة أن تصلِّب وضعها الداخلي، وأن تدرسه جيّداً اكثر من أي وقت مضى، لأنَّنا مقبِلون على امتحان صعب، والمؤامرة كبيرة علينا، دولياً وإقليمياً، ونريد رجالَ فتح أن يكونوا المقاتلينَ من أجل سلامتها، وقرارها المستقل، ومن أجل ديمومتها، فحركة "فتح" حركة الأجيال حتى النصر.

المؤتمر السابع قادم، و"فتح" ستخرج أقوى ممّا كانت، وصلابةُ أي تنظيم لا تُعَد بعدد الأعضاء، وإنما بالقناعة، والوعي، والإيمان بالأهداف، والمبادئ.

البعض يريدُ المؤتمرَ السابع مقبرةً لفتح، ونحن مُصرون على أن يكون المؤتمرُ مفخرةً لفتح ولشعبنا.